سيقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: هذه وحشية، هذه همجية، هذا لا يكون في القرن العشرين، قرن الحرية والنور، هذا يأباه فلاسفة العالم المتمدن؛ المسيو فلان، والمستر علان، والهر جرمان، والسنيور إيطاليان
ويقول الحق: هذا واجب، هذا حسن، هذا دواء القرن العشرين، قرن الاستعمار والاستعباد، وإبادة الضعفاء، واغتصاب الحريات، هذا ما أمر به الله، وجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر امرؤ مسلم: أيتبع أمر الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم يتبع رأي المسيووات والمساتير، والهررة والسنانير؟!. . .
سمعت - وأنا في مكة - أن أمراً سيقع بعد صلاة الجمعة (آخر المحرم سنة ١٣٥٤) فجعلت أرقب وأنتظر، لا أحب أن أسأل أحداً، كيلا تفوتني لذة المفاجأة وروعة الحدث. ثم إن الرجل في الحرم كالسائح في أرض الله، لا يدري من يسأل؛ ولا يعرف من يخاطب، وبينا هو في (الهند) يسمع لغة الهنود ويرى أزياء الهنود، ويبصر عادات الهنود، إذا به ينتقل بعد خطوات إلى (نجد) فإذا هو بين النجديين، وإذا كل شيء من حوله عربي نجدي، ثم يخطو فإذا هو في مصر، بين المصريين، يسمع حديث مصر. في لهجة مصر. . . فكأن الدنيا كلها قد استقرت في الحرم، تستظل بالبيت العتيق، وتطوف به، وتجثو خاشعة من حوله، فلا يحس الرجل وهو فيه بأن وراءه دنيا، أو ظاهر جدرانه حبا من الناس، أو عامراً من الأرض
حتى إذا قضيت الصلاة، وانفتل الإمام، ابتدر الناس أبواب الحرم يستبقون إلى شارع الحكومة - وهو في أسفل أجياد، يمتد من شمال الصفا حتى يجاوز باب إبراهيم - فلم تكن إلا هنيات حتى امتلأ الشارع على سعته بالناس، ولم يبق فيه موطئ قدم، فجعلت أزاحم الناس لأخلص إلى الساحة، فلا أتقدم خطوة؛ ومن لي باختراق هذا السد الهائل من الأجساد، واجتياز هذا الخضم من الناس؟ فأيست واحتسبت مصيبتي في فوت المشهد عند الله، وهممت بالعودة إلى الحرم، وإذا أنا بالشيخ يوسف ياسين (سعادة سكرتير جلالة الملك)