للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[من دموع القلب!]

(مهداة إلى الأستاذ أنور العطار)

للأستاذ علي الطنطاوي

(هل تذكر يا أنور، يوم جزنا بمقربة الدحداح ونحن طفلان يتيمان في طريقنا إلى المنزلين الصغيرين المتجاورين في (السمانة) فوقفنا ساعة على القبرين المتدانيين نزور أبوينا. . . ثم ذهبنا مسرعين لنودع آلامنا صدر الأم؟

أتذكر ما قلت لي يومئذ عن حبك أمك وتعلقك بها، وما قلت لك؟ أتذكر أننا اتفقنا على أن الحياة مستحيلة علينا بعد الأمهات وأننا سنبقى معهن أبداً وشملنا جميع وعقدنا متصل؟

لقد كان ما ظنناه مستحيلاً يا أنور. . لقد ماتت أمي وأمك واحتواهما ذلك القبر الذي حوى أبوينا من قبل وعشنا بعدهما. . . لم نعد نملك منهما يا أنور إلا دموعاُ حرى في العين وحسرات لاذعات في القلب. . . لقد غابتا إلى الأبد!)

(علي)

لست أدري ما الذي يحملني على ذكر الماضي ونبش عظامه النخرة؟ وما الذي يغريني بأن أتلمس مكان أحلامي من الواقع. . . وأنا أعلم أن الماضي قد ذهب بمسراته وأحزانه ولم يبق في يدي منه إلا هذه الذكريات التي طالما حاولت أن ألقي بها في الزاوية المظلمة من نفسي لتنام فيها إلى الأبد، فكانت تستفيق كلما أردت نسيانها فتسود صفحة الحياة في ناظري حتى لا أرى فيها جميلاً ولا بهيَّاً. . . وأنا أعلم أن أحلامي التي بنيتها بقطع قلبي، وأنقاض أيامي، ورويت رياضها بدمع عيني، قد جف زهرها، وصوح نبتها، وانهارت أمام عيني دفعة واحدة، كما ينهار بيت من ورق اللعب ضربته كف إنسان. . . فأيست منها وذهبت أعيش بقلب محطوم وكبد مكاومة، فأضحك وأمزح حتى ليظنني الناس أسعد الناس وأنا أشقاهم وأخيبهم أملاً، وأشدهم ألماً. . .

فلماذا أعود الليلة إلى الماضي التي ماتت أيامه، وماتت أحلامه ومات ناسه؟

كنت أطل من شرفتي في الفندق على شارع الرشيد في بغداد الذي يمثل الحياة ويفسرها ويصور حقيقتها أكثر من تصوير الأدباء وتفسير الفلاسفة، بل إن ساعة واحدة تشرف فيها على شارع الرشيد أجدى عليك في فهم الحياة من دراسة عشر سنين في هذه الكتب. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>