للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وماذا في الكتب إلا الحيرة والضلال؟ ومنذا الذي تبلغ به الحماقة وتفيض على نفسه حتى يدعى أنه فهم الحياة من الكتب؟ أنا أحد صرعى هذه الكتب وضحاياها فسلوني عن خيبتي وخساري؟

قالت الكتب: إن المستقيم أقصر الخطوط فأسلكه تصل، واستقم تبلغ غايتك، فسرت قدماً فاصطدمت بأول جدار لقيته فشج رأسي وقعدت مكاني، واستدار غيري والتوى كما تستدير طرق الحياة وتلتوي فوصل

قالت الكتب: كن فاضلاً واحرص على مكارم الأخلاق فهي السبيل، فوجدت أهل الرذيلة هم الذين يصلون، ورأيت أسفل الناس أخلاقاً صار أستاذاً للأخلاق في أكبر مدرسة، فعجبت من سخر الحياة!

وقالت الكتب: الحق، وقالت الحياة: القوة. . . وقالت الكتب: الفضائل. وقالت الحياة: الشهوات. وقالت الكتب. . . ولكن لم يكن إلا ما قالت الحياة!

ونظرت إلى شارع الرشيد، فإذا السيارات من كل جنس ولون، والعربات من كل شكل ونوع، والدراجات والعجلات، كلها يعدو يريد أن يصل أولاً، وكلها يزاحم، وكلها يزأر ويصيح ويهدد، ولكنها إذا بلغت الغاية رأت أنها لم تصل إلى شيء فعادت أدراجها تزاحم وتعدو وتصيح. . .

فقلت: كذلك الحياة. . . سباق وتزاحم، ولن ما هي الغاية؟ لا شيء. . .!

ودخلت الغرفة وأغلقت عليَّ بابي، وأردت أن أفيء إلى عزلة أسكن فيها نفسي، وأجد فيها راحتي، ولكن الباب قرع، وجاء السيد حيدر الجوادي، الرجل الذي ملك على الدكتور زكي مبارك أمره، وأطربه وأعجبه حتى غدا لا يصبر عن سماعه حيثما رآه، وحتى اضطره إلى الغناء في المكتبة العامة، وقال له: غنّ هاهنا فوالله لتحدثن بها الناس وليقولن إن زكي مبارك ابتدع الغناء في المكتبات. . . جاءني فغناني (أبوذية) من (أبوذيات العراق) التي ما أظن أن إنسياً أو جنياً عرف نغمة أشجى منها وأسرع إلى القلب وصولاً، وأشد للألم تصويراً. هي قطرات من الدمع صورت نغماً. هي خفقات القلب صيغت نشيداً. هي. . . هي خلاصة الفن العبقري الذي يصور الألم العبقري. . . فهز نفسي هزاً عنيفاً، فتح صفحاتها جميعاً ووصل ماضيها بحاضرها، وأسلمها إلى ذهلة عميقة - لذة ممتعة - ولكنها

<<  <  ج:
ص:  >  >>