أليمة موجعة، ذكرت (العتابا) تلك الأغنية التي ترن بها أبداً أودية لبنان، وتنحدر أصداؤها على سفوحه وحدوره، ولا يدري أحد من هو الذي وضعها ونظم مطلعها وألف لحنها، (العتابا) الخالدة التي يشترك في تأليفها العصر الجديد والعصر الغابر، ويزيد فيها كل جيل أدواراً فيكون منها الصورة الصادقة لعواطف الشعب وهواجسه وأمانيه وذكرياته، تلك التي تعيش في ترنيمة السواقي المتكسرة على الشعاف والصخور لتبلغ قرارة الوادي، وفي نشيد الرياح في الأودية البعيدة، وفي همس الأوراق في غابات الصنوبر الضاحكة، وفي عطر كل زهرة، وصمت كل صخرة، وأشعة الشمس المطلة من وراء الذرى للسلام، والمشرفة من آخر الأفق للوداع، وفي نور القمر الذي يغمر لبنان بفيض من الشعر والحب والسحر، وتعيش في كل ذروة من لبنان!
رجعتني هذه (الأبوذية) إلى سالفات أيامي، فذهبت أعرض صور حياتي فيها وهي تمر بي متتالية متعاقبة كمناظر السينما ملتفة بضباب الماضي، فأرى مآسيها المغسولة بالدموع وفواجعها الدامية ولكني لا أرى منظر بهجة ولا سرور. . . فهل أرى البهجة والسرور بعد أن أشرفت على الثلاثين؟
كنت أفكر دائباً في المستقبل، وأنتظر المستقبل، فها هو ذا المستقبل قد صار حاضراً، فهل وجدت فيه إلا الخيبة والألم؟
لقد جربت الصناعات والفنون وطوفت في البلدان، فما أفدت من ذلك كله إلا أني تركت في كل بلد قبراً لأمل من آمالي. لقد أضعت الحب والمال، وأضعت المجد الأدبي، حتى هذه الألحان التي تدور في نفسي ضاعت مني. . . فلم أستطع أن أسمعها الناس أغاني وأصواتاً، ما سمع الناس إلا أقصر أغاني وأقبحها، وتلك هي مقالاتي التي نشرتها، فمتى يسمعون أجمل ألحاني وأطولها؟
في المستقبل!
يا ويح نفسي! هل بقي لي مستقبل إلا الموت الذي غدوت أحبه وأناديه لو كان يسمع النداء؟
لقد وجدت المستقبل عدماً فهل عليَّ من لوم إذا عدت إلى ماضي أعيش فيه؟
في هذا الماضي دفنت أمي، وفيه دفنت أبي، وفيه دفنت أحلامي. . . لقد أحببت كثيراً