للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وتألمت أكثر مما أحببت، ولكن الحب الحقيقي الواحد الذي انطوى عليه قلبي، والألم الفرد الصادق الذي عرفه، هو حبي أمي، وألمي لموتها، وكل ما عداهما حب كاذب، وألم عارض

إني لأنسى البلاد كلها حتى منازل حبي، وربوع هواي، ولكني لا أنسى أبداً ذلك الزقاق الضيق الذي يمتد من العقيبة في دمشق إلى رحبة الدحداح، لأن سعادتي ولدت في أول هذا الزقاق، وماتت في أخره حين مات أبي وأمي. . .

فيا رب ارحمني بالنسيان، وأين مني النسيان؟

إني لأنظر إليها الآن وهي مريضة على فراشها، كأنما كان ذلك منذ ساعة، فيبكي قلبي ولا أستطيع أن أكتب عنها حرفاً. لا أحب أن أنشر أحزاني حتى لا تلوكها ألسنة الناس، فليبق الألم في صدري أحمله وحدي. . . أنا لا أصدق أن هذه السنين السبع قد مرت على ذلك الحادث. . . أأنا أعيش سبع سنين لا أرى فيها أمي، وقد كنت آلم إن غبت عنها يوماً؟ أأعيش وهي نازحة لا تعود بعد عام ولا عشرة، لا تعود قبل يوم القيامة؟

اللهم صبراً فإني والله ما أطيق الصبر!

يقولون إن المصيبة تبدأ صغيرة ثم تكبر، ولكن مصيبتي بأمي تنمو في نفسي كل يوم!

لم أعد أجد في الحياة ما يغريني بها، ويرغبني فيها؟ وماذا في الحياة؟ كل لذة فيها مغشاة بألم، فيها الربيع الجميل، ولكن فيه بذور الصيف المحرق، والشتاء القاسي. وفيها الحب، ولكن لذة الوصال مشوبة بمخافة الهجر. وفيها الصحة والشباب، ولكنهما يحملان الهرم والمرض. فيها الغنى، ولكني ما عرفته وما احسبني سأعرفه أبداً.

لقد كرهت الحياة، وزادها كراهة إلي هؤلاء الناس، فلم يفهمني أحد ولم افهم أحداً. إن حزنت فأعرضت عنهم مشتغلاً بأحزاني قالوا، متكبر، وإن غضبت للحق فنازعت فيه قالوا، شرس، وإن وصفت الحب الذي أشعر به كما يشعرون قالوا، فاسق، وإن قلت كلمة الدين قالوا، جامد، وإن نطقت بمنطق العقل قالوا، زنديق، فما العمل؟ إليك يا رب المشتكي فما لي في الدنيا بعد أمي صديق!

تلك هي التي كانت تقبلني على علاتي، والناس لا يقبلون إلا محاسني. تلك التي كانت تحبني أنا، والناس يحبون أنفسهم فيّ. تلك هي الحبيبة الوفية التي لا تهجر ولا تخون، تلك

<<  <  ج:
ص:  >  >>