من المعروف أن البيئة تؤثر في الإنسان تأثيراً كبيراً فهي تطبعه بطابعها وتنشئه على أخلاقها وتحمله بقوتها وسلطانها على أن يكون عضواً فيها، يعيش كما تعيش، ويفكر كما تفكر، وينزل على إرادتها وحكمها مطمئن القلب راضى النفس ولكن مع هذا قد يظهر في الأمة أو الجماعة من الحين بعد الحين أفراد يجعل الله منهم مظهر رسالة خاصة إلى الأمة أو الجماعة، فيصنعهم على عينه ويعصمهم من التأثير ببيئاتهم، فينشأ الواحد منهم برأسه أو أمة في نفسه، لا يتأثر بجماعته، ولا يتقيد بقيودها، ولا يزن الأشياء بميزانها بل بالعكس يؤثر هو فيها ويقتحم عليها حصونها، ويعيش معها ما عاش في كفاح وجلاد وهو في كل يوم يفتح فتحاً جديداً ويدك حصناً عنيداً، ويتعهد من وراء ذلك بذوره التي يضعها حتى ترسخ أصولها، وتسمق فروعها، وتؤتى أكلها كل حين بإذن ربها
أولئك هم المصلحون في كل زمان ومكان: منهم رسل الله المبلغون عنه، المؤيدون بوحيه، ومنهم دون ذلك من عباقرة الأمم وأفذاذ التاريخ
ولقد كان الشيخ عبده من هؤلاء العباقرة الذين عصمهم الله من التأثير ببيئاتهم ومكنهم من التأثير فيها
كانت بيئة الشيخ عبده هي البيئة الأزهرية التي تكونت في أواخر القرن الثالث عشر من الهجرة. وكان طابعها الركود الفكري، والتعصب المذهبي، والتقديس للآراء والإفهام والسمو بها عن النقد ومحاربة كل رأي جديد، وقد وصل الأمر بهذه البيئة إلى أن أوجبت التقليد في دين الله وحرمت الاشتغال بالعلوم العقلية والرياضية وقاومت من حاول الخروج عليها في ذلك زماناً طويلاً. وكانت أكبر جناية لهذه النزعة جنايتها على القرآن فقد صورته كتاباً عزيز المنال بعيداً عن الإفهام لا يدركه إلا الراسخون الذين مضوا وقد درسوا واستنبطوا منه جميع ما يلزم المسلمين فليس لأحد بعدهم أن ينظر فيه كما نظروا ولا أن يستنبط منه كما استنبطوا، ولا أن يفسره بغير ما فسروا
ظل القرآن في ظل هذه النزعة يدرس دراسة أساسها الإسراف في المناقشات اللفظية لعبارات المفسرين، والاعتماد في قصصه على الروايات الغريبة والإسرائيليات الموضوعة