كم من تشابه بين حوادث الطبيعة وحوادث المجتمع! وهل المجتمع إلا جزء من عالم الطبيعة وخلية من الخليات المتعددة التي تشكل هذا العالم الكبير الواضح بمظاهره والخفي بأسراره ومعمياته؟ وكما يسود التطور في نظام الطبيعة على اختلاف أشكالها وتباين أنواعها، يسود في نظام المجتمع والهيئات البشرية هذا القانون. هكذا نجد انتقالا وتصعداً في سلم الرقي خطوة فخطوة ودرجة فدرجة. أما الطريق ففي العالمين بعيد، وليس من هدف ولا غاية، وما المكان الذي نظنه بنهاية المطاف ما هو في الحقيقة إلا مرحلة انتقالية إلى مرحلة أخرى. الطبيعة تمشي والمجتمع يسير، لا يعرفان الوقوف ولا السكون ولا الراحة ولا الاستقرار، وما الاستقرار الظاهري إلا دور يهيئ إلى دور آخر؛ فكل ما يقع عليه بصرنا أو تدركه بصيرتنا، يسطو عليه دوما ناموس الجريان والتغير الدائم.
إن هذه التغيرات البطيئة جداً تدق حتى عن فهم الذكي، ولكن لدى النظرة العميقة وتتبع الحوادث الطويلة نجد كل ما على سطح الأرض تابعاً للتغير والتبدل، فلا شيء يبقى على حاله الأصلي فالجبال التي يضرب بها المثل في الثبوت لا تبقى مكانها، بل بتعاقب الأحقاب الطويلة تتزلزل وتصبح سهولاً وترتفع السهول فتصير وهاداً فنجاداً فهضاباً إلى أن تكون جبالا شاهقة تتخللها الوديان السحيقة، وكثيراً ما تجف بعض المناطق البحرية، فتصبح براً والبر يتحول إلى بحر، وهكذا فإن التبدلات الجزئية التي تظهر للناظر السطحي كشيء تافه لا قيمة له، تكون بتعاقب ملايين السنين انقلاباً خطيراً يدهش الأنظار، ويكاد لا يصدق الإنسان ما كانت عليه بعض المرتفعات الشاهقة في الماضي لولا الحيوانات البحرية التي بادت وتركت معالمها بين طيات الحجار.
قياساً على ما بينا فإن الأمم تتغير وتتبدل، وبتأثير الأفكار الهادئة الرزينة تنتقل من طور إلى طور وذلك بتعاقب الأجيال والعصور، ولولا ما دونه لنا التاريخ في قرون مضت، أو بعض الآثار الباقية عن الأمم الخالية، لما عرفنا ما كانت علي الشعوب والحضارات الماضية.
نعم إن بعض الأمم قد تدنت عما كانت عليه من قبل، كاليونان الذين كانوا يحملون مشعل