قبل خمسين عاما، أو أكثر كانت (حضرموت) تعيش في عزلة تامة عن تطورات الثقافة في الأقطار العربية. وكانت دور (الكتاتيب) التي عاشت إلى وقت متأخر جدا هي كل ما هناك من مظاهر الحياة العقلية والعلمية.
ويجوز أن تكون (حضرموت) قد عرفت من مظاهر الحياة العلمية والعقلية غير هذه (الكتاتيب). إلا أننا لا نستطيع أن نحدد، من الناحية التاريخية، معالم تلك الحياة، أو نتبين آثارها الأدبية. فإن دراسة تاريخ الحياة الأدبية، والسياسية، والعقلية في حضرموت ليس من المتعذر فحسب وإنما كذلك عمل شائك لا يخلو من المفارقات والملابسات.
ونحن لا نريد أن نتبع مذهب (ديكارت) في هذه الدراسة العلمية، أو مذهب (الشك) كما يسميه الدكتور (طه حسين)؛ لأننا في فجر هذه النهضة الحديثة نطمع في الظفر بمعلومات أوفى، عن مظاهر الحياة العقلية، والعلمية. ولقد سررنا كثيرا، للفتوحات الجديدة، في التأليف عن التاريخ العام لحضرموت، وهي الفتوحات التي بدأها الأستاذ (صلاح عبد القادر البكري) حين أخرج كتابه (تاريخ حضرموت السياسي) وهو تعريف موجز بالحكومات السياسية، التي تعاقبت على (حضرموت) منذ صدر الإسلام إلى أواخر عهد السلطنات القائمة.
أما بعد: فإن (الكتاتيب) التي أثبتنا أنها كل ما بقي لنا من مظاهر الحياة العقلية والعلمية، فيما قبل الخمسين عاما الماضية لا ينفي أن يكون هناك من (النوابغ) من كانت ظروف حياته المعاشية أو أحاول استعداده الفطري قد أعانته على التفوق في العلوم الدينية والعربية، غير أن هذه (الحالات) الفردية لا يصح أن تكون مرآة صادقة للحياة العقلية والأدبية.
والذي يمكن الاطمئنان إليه في معرفة نشأة الحياة العقلية، في (حضرموت) هو أن ظهور المدرسة القديمة، أو ما يسمونه (بالمجامع العلمية)، في أوائل القرن الرابع عشر الهجري كان بداية طبيعية لتلك الحياة. وهذه (المجامع) تشبه إلى حد ما في نظام دراستها، تلك الجوامع القديمة التي كانت منتشرة في حواضر الدولة العباسية.