للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَْزلٌ. . .!

للأستاذ محمود محمد شاكر

يخيل إلى أن بين قلمي والليل صبابة أو هوى قديما. فطالما رأيتني اعقد الرأي والعزم نهارا على شئ اجعل الكتابة له قيدا إذا جنّ الليل، فما أكاد احمل القلم وابدأ حتى أرى القلم ينقض عليّ رأيي وعزمي ويمضي إلى حيث شاء كما شاء، فما يبقى من آية النهار المبصرة شيئا إلا طمسه أو إزالة أو نكّر من معارفه. وما أظنّ إلا أن كل كاتب قد ابتلى من قلمه بمثل الذي ابتليت به أو بشيء يقاربه. ومن اعسر شئ ألقاه من هذا القلم ربما بدأت الكتابة، فإذا هو مطواع حثيث ماض لا يتوقف، وإذا كلمة مرسلة إليه ليقيدها، فإذا هو كالفرس الحرون قد ركب رأسه وأبى اباء، فلا أزال أترفق به واستحثه وأديره بين أناملي ليلين ما استعصى من طباعه، ولكنه يأبى إلا لجاجة وعنادا، ثم ينزع إلى وجه غير الذي أردت، وإذا أنا مضطر أن أعود من حيث بدأ هو لا من حيث أردت أنا أن ابدأ، وعندئذ يمضى على هواه وعلى ما خيّلت. وقد عرفت ذلك من عاداته قديما، فما يكاد يفعل ذلك حتى أثوب به إلى ورقة أخرى فإبداء الكتابة من حيث أراد، وأمري لله.

أفتراني أخطئ إذا أنا زعمت إن لقلم الكاتب شخصية مستقلة بل منفصلة تكاد أحيانا تغلب حامله على رأيه وعلى تقديره وعلى عزائمه؟ أم الإنسان المفكر صاحب العقل شئ آخر غير الإنسان الكاتب حامل القلم؟ فهو حين يفكر يعطي أفكاره من الحرية والسعة والحماسة ما يجعلها اقدر على التصرف في وجوده الرأي وشعابه ونواحيه، فإذا حمل القلم ليملي عليه بعض أفكاره، استقل قلمه بالفكرة بعد الفكرة يزنها ويقدرها على قدر عقله هو لا على عقل حامله، فربما عرض له أن ينبذ منها أو ينتقَّصها أو يتجافى عن طريقها فيسد عليها المسالك ويضرب عليها بالأسداد، ثم يشرع إلى وجه غير الذي يراد له؟ أم الإنسان إذا فكر ثم أراد أن يكتب وحمل القلم صار هو نفسه شخصا أخر غير الإنسان المفكر بغير قلم محمول؟ كل ذلك ممكن، ولكنه على كل حال متعبة وشقاء لحامل القلم ما بعده شقاء ولا تعب.

وأعرف رجلا من أصدقائي الكتاب، إذا حمل القلم وكتب كلمات ألقى قلمه ضجرا يائسا متململا من عسر المدخل الذي دخل به على ما أراد، فإذا عاد القلم إلى جماحه وتعذره، ولا يزال كذلك مرة بعد مرة حتى يرى قلمه قد رضى وأطاع ومضى إلى أخر حرف في المقالة

<<  <  ج:
ص:  >  >>