للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[صديق]

للأستاذ احمد أمين

الأستاذ بكلية الآداب

- ١ -

لي صديق اصطلحت عليه الأضداد، والتقت فيه المتناقضات، سواء في ذلك خلقه وخلقه وعلمه.

حي خجول، يغشي المجلس فيتعثر في مشيته، ويضطرب في حركته، ويصادف أول مقعد فيرمي نفسه فيه، ويجلس وقد لف الحياء رأسه، وغض الخجل طرفه، وتقدم له القهوة فترتعش يده، وترتجف أعصابه، وقد يداري ذلك فيتظاهر أن ليس له فيها رغبة، ولا به إليها حاجة، وقد يشعل لفافته فيحمله خجله أن ينفضها كل حين، وهي لا تحترق بهذا القدر كل حين، وقد يهرب من هذا كله فيتحدث إلى جليسه لينسى نفسه وخجله، ولكن سرعان ما تعاوده الفكرة فيعاود الهرب، وهكذا دواليك حتى يحين موعد الانصراف، فيخرج كما دخل، ويتنفس الصعداء حامدا الله على أنه لم يخر صعقا، ولم يدركه حينه كربا وقلقا.

من اجل هذا اكره شيء عنده أن يشترك في عزاء أو هناء. أو يدعى إلى وليمة أو يدعو إليها، يشعر أنه عبء ثقيل على الناس وانهم عبء عليه، يحب العزلة لا كرها للناس ولكن ستراً لنفسه، ويأنس بالوحدة وهي تضنيه وتبريه.

ثم هو (مع هذا) جريء إلى الوقاحة، يخطب فلا يهاب، ويتكلم في مسألة علمية فلا ينضب ماؤه، ولا يندى جبينه، ويعرض عليه الأمر في جمع حافل فيدلي برأيه في غير هيبة ولا وجل، وقد تبلغ به الجرأة أن يجرح حسهم، ويدمي شعورهم فلا يأبه لذلك، ويرسل نفسه على سجيتها فلا يتحفظ ولا يتحرز.

يحكم من يراه في حالته الأولى أنه أحيا من مخدرة، ومن يراه في الثانية أنه أوقح من ذئب وأصلب من صخر، ومن يراه فيهما أنه شجاع القلب، جبان الوجه.

وهو طموح قنوع، نابه خامل، يرمي بهمته إلى أبعد مرمى، وتنزع نفسه إلى أسنى المراتب، وتحفزه إلى أبعد المدارك، فيوفر على ذلك همه، ويجمع له نفسه، ويتحمل فيه أشق العناء، وأكبر البلاء، ولا يسأم ولا يضجر. وكلما نال منزلة ملها، وطلب أسمى منها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>