تفيَّأ كعادته كل يوم ظلال الكافورة الغيناء من قهوته المختارة على شاطئ النيل الجميل في (المنصورة) بلد الشعر والسحر والجمال والفتنة. وكان مجلسه تحت هذه الدوحة الفينانة أشبه بالعش الناعم قد احتضنه النهر وحنَت عليه الغصون وتنفَّس فوقه الماء بالنسيم الرطب فأصبح للحس الشاعر قطعة من رياض عدْن، أو بقعة من بقاع عبقر! فإذا أضفت إلى جمال المكان وبهجة المنظر، أنس الصديق المخلص، ورقة الجليس المهذَّب، وبشاشة الوجوه النامة عن الود، وعطف القلوب المتآخية في الأدب - جمعتَ في ذهنك صورة مقاربة للحياة الروحية الوادعة التي يحياها هذا المهاجر في زمن روعت الحرب فيه معالم الأرض ومجاهلها حتى ما كان ممتنعاً منها على شرور الإنسان منذ الأبد كأجواء السماء وأثباج البحر وقفار البيد!
مال ميزان النهار وأوشكت جمهرة النادين من الأهلين والمهاجرين أن تنصرف عن مناضد القهوة الحافلة، فلم يبق إلا جماعة هنا وجماعة هناك من الذاهبين إلى (رأس البر) أو الآيبين منها، جلسوا يستروحون من عناء السفر ليستأنفوه بعد الظهيرة؛ وسكت النداء عن النُّدُل فجلسوا يرفهون عن أقدامهم على أبواب القهوة؛ وانقطع الرجاء بمساحي الأحذية وبائعي اليانصيب ومحترفي السؤال فناموا متربصين على إفريز الطريق؛ وهمدت الأصوات والحركات حول المهاجر فاتجه بعينه وقلبه إلى النهر الخالد وقد ظمئ شاطئاه ونشَّ مجراه حتى سحب الملاحون قواربهم على قاعه. هنالك رأى زمر القرويين الوافدين على السوق يملئون الزوارق في المعبَر الذي لم يتغيَّر منذ رآه وهو طفل، فأتبعهم نظرَه الحالم حتى صعدوا درَج الموردة وانسابوا بعصيهم وإخراجهم في شارع فاروق. فلما مروا به على قرب رأى لهم صوراً غير التي عهدها لآبائهم وهو يافع: كان الغالب إلى آبائهم الجسامة والوسامة والسذاجة والصحة؛ وكان بين أبدانهم الوثيقة ولحاهم المرسلة وثيابهم الفضفاضة وعمائمهم الضخمة تناسق عجيب يملأ النفوس مهابة وروعة؛ فإذا حادثتم في شيء من الأشياء، أو عاملتهم في أمر من الأمور، وجدت صفاء القلب مشرقاً في الحديث، وأثر الدين ظاهراً في المعاملة. وكنت تخالط سوادهم أو آحادهم فلا ترى إلا عفة في القول، وصراحة في الفعل، وقناعة بقسمة القدر، ومواساة في محن الدهر، ونية صادقة في أن تكون القرية للكل، والكل للقرية.