للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شرقاً وغربا

للدكتور محمد عوض محمد

في يوم قديم من أيام هذا الزمن السرمدي، جلس يافث وسام إبنا نوح، في ظل شجرت من الأثل، ليستريحا ساعة من النهار. وإلى جانبهما جدول يجري، له خرير هادئ وديع، وانسياب معتدل، ليس بالسريع ولا البطيء. ولأغصان الأثل حفيف دائم، فيه رنة حزن بادية. كأنها انتحاب الثاكل أو أنين السقيم.

كان العالم حديث عهد بالطوفان الهائل الذي غمره، ورحضه رحضاً عنيفاً قاسياً لكي يطهر مما به من رجس، ويصفو مما به من كدر، ويعود نقياً بريئاً نظيفاً. . .

يا للعجب! أكلما تدنس وجه الأرض، وغشيته الأقذار، انتابته هذه الكارثة وأرسل إليه طوفان ليغمره ويطهره،؟ لقد عادت الأرض بعد هذا الطوفان طهراً، كأنما خلقت خلقاً جديداً، وعاد ثغرها باسما، وجبينها ناصعا، ووجهها زاهراً. لكن - تباركت اللهم - ألم يكن الثمن غاليا، والقربان جسيما؟ أما من سبيل غير هذه لكي تطهر الأرض مما تمتلئ به الأدران وما قد يغشاها من الرجس؟ وإلا فهل من سبيل لأن يسود هذا العالم الصفاء والطهر، فلا ينغمس في الأقذار ذلك الانغماس المروع، الذي لا مفر معه من كارثة ماحقة، تعيد إليه الصفاء والنقاء؟

لابد أن يكون هنالك سبيل غير هذه السبيل، وطريق لإصلاح العالم غير تلك الطريق. . . فهل لهذه العيون الحائرة من قبس من النور القدسي يهديها تلك السبيل؟

كانت هذه الخواطر تتردد في فكر سام ويافث، وهما جالسان: ينظران إلى تدفق الجدول، أو يحدقان في السحاب المنتشر في السماء، أو يصغيان لحفيف الأثل، أو يرسلان الطرف بعيداً إلى قمم عالية يغشاها الثلج الأبدي. وهما في الحقيقة لا يريان ولا يسمعان من هذا كله شيئاً، إذ شغلهما ما أهمهما من هذه الأفكار المتدافعة تدافع الموج. فكان كل منهما يقطب جبينه حيناً، ثم يقلب في الفضاء نظرات حائرة، لا تكاد تعرف لها قرارا. . .

وأخيراً تكلم يافث:

أي سام! لقد حم الفراق، ولم يبق بد من أن يتخذ كل منا في هذا العالم سبيله،. فعلام عولت؟. . . إن هذا الطوفان الذي غمر الأرض، وعم الغور والنجد، قد طهر كل ركن من

<<  <  ج:
ص:  >  >>