وبعد فلو أننا قدمنا ذلك الشعر باسم البارودي، لم نتجن على الحقائق، ولم نسيء إلى أحد الشاعرين: فإن هذه المعاني التي عرضناها لأبي فراس في موضوع الصداقة - هي بعينها المعاني التي قالها البارودي، والتي سنعرض شيئاً منها كذلك.
كيف اتفق البارودي مع أبي فراس في الحكم على الناس؟
وليس الجواب عن هذا السؤال عسيراً، إذا عرفنا أن البارودي كان كأبي فراس - عبقرياً في الحرب وفي السياسة وفي الشعر. حارب غير مرة فظفر، ولجئ إليه عند الأزمات السياسية فصفى الماء العكر، وتعهد الشعر العربي فأجدَّه بعد أن نخر.
والناس كما أسلفنا - في كل زمان يكيدون للنابغين كيداً، ويتربصون بهم الدوائر حقداً؛ والحق أن أبصر الناس بالناس هم العباقرة؛ لأنهم هم الذين يتلقون حقدهم، وتنكشف أمامهم خبايا نفوسهم.
فالبارودي إذ يتحدث عن الصحاب، إنما يصدر عن تجربة.
ثم كان عصر البارودي مشجعاً بمنحه وفتنه على تمييز المخلص في صداقته من المخادع؛ إذ كانت الفتن الداخلية السياسية على أشدها، وكان المقربون من الخديو غرضاً يرميه الوشاة بخزعبلاتهم، وكان بعض هؤلاء المقربين يشي ببعض، فيتهم أحدهم الآخر بممالأة الشعب، وتحريضه على الثورة، أو حثه على إحراج الخديو، وكان الإنجليز يتسقطون الأخبار ليعرفوا حركات الزعماء ونواياهم، فكثرت الدسائس والوشايات واستطاع شانئو البارودي أن يدسوا عليه، وأن يلقوا عليه مع سائر الزعماء تبعة الثورة العرابية.
ثم كان نفيه - كأسر أبي فراس - آخر محك للصداقة، وأصدق معيار لمن يدعون الوفاء، حيث تراجع عن صداقتهم المدعون، وكشفت المحن ضمائر المستورين.
وليس يفوتنا هنا كذلك من أسباب كثرة الحساد للبارودي، غلوه هو أيضاً في الفخر، وشدة