للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

أرملة

عن الفرنسية

كان ذلك في أوان الصيد في قصر بانفيل، والخريف مطير حزين، والأوراق المنتثرة ذابلة محمرة لا يسمع لها تقصف تحت الاقدام، بل تعطن في السكك بمدارج العجلات تحت شآبيب الذيم الهطالة.

وكانت الغابة وهي جرداء إلا قليلا تشبه الحمام من الرطوبة. فإذا أوغلت فيها تحت أفنان الدوح العالي يصفقه وابل المطر شملتك رائحة مخمة وهبوه ماء من العشب المخضل والأرض المبتلة.

والصيادون حناة الظهور يدبون تحت هذا الفيض الهتون، والكلاب محزونة ذيولها مرسلة، وشعرها ملتصق بآطالها، والغانيات الصائدات في أثواب الصوف المفصلة لاصقة مشربة بالبللل، وهم كل مساء يؤوبون من الصيد أنضاء جسم وعقل أجمعين.

وفي البهو الكبير بعد العشاء يجتمعون إلى لعبة الورق متقارعين، من غير انبساط ولا لذة. وللريح في الخارج هبات مدوية تدفع في مصاريع الشبابيك المغلقة، وتبتدر دوارات الهواء فوق الأبراج فإذا هي من دوران كالخروف المدوم.

فأرادوا أن يسمروا بالحكايات كما تروى في الكتب، ولكن الله لم يفتح على واحد منهم بابتداع حكاية مسلية. ومضى الصيادون يقصون ما وقع لهم أثناء صيدهم بالبنادق وتقتيلهم للأرانب، وجعلت الغانيات يكدون أذهانهن ويتقصين في ثناياها فلا يجدن خيإلاً كخيال شهرزاد يسعفهن بحكاية من أمثال حكايات ألف ليلة. وكادوا يكفون عن الأحاديث. وكانت إحدى الغانيات تعبث خالية البال بيد عمتها العجوز، وهي عانس لم تتزوج، فلحظت خاتماً صغيراً من شعرات شقراء طالما وقع ناظرها عليه من غير أن تفكر لحظة فيه.

فسألتها وهي تديره في إصبعها بلطف: (ألا قلت لنا يا عمتي ما هذا الخاتم؟ لكأنه شعر غلام يافع. . .) فاحمر وجه العانس ثم اصفر، وأجابت بصوت متهدج: (إن الأمر محزن جدا، محزن جدا، حتى لست أحب الكلام عنه. وكل ما في حياتي من الشقاء فهذا مصدره. لقد كنت في غرارة الشباب وقتئذ، وما زالت تلوعني الذكرى حتى يغلبني البكاء كلما

<<  <  ج:
ص:  >  >>