لا يزال هناك فريق من الناس ينفر من الحكمة وعلومها، ولا يعلمون ما للحكمة من شأن عظيم في الإسلام، وأن القرآن نوه كثيراً بشأنها، وذكر أن من فضل الله على بعض الأنبياء أنه أوتيها، وجمع بينها وبين النبوة، من أولئك الأنبياء الذين جمعوا بينهما، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفضله في ذلك يربو على الفضل كل الأنبياء. ولا غرو فهو الذي أخرج من تلك الصحراء القاحلة، أمة كانت ترتع في البداوة والجهالة، فجعلها خير أمة أخرجت للناس، شأن العلم عندها أرفع شأن، تحمل مصباحه بيمينها لتضئ به العالم شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، لا تبغي بذلك إلا وجه العلم، ولا تقصد من ورائه مغنما من مغانم الدنيا، ولا تجعله وسيلة لحكم الشعوب وإذلالها، ولا تحتكر لمصلحتها، ولا تكتمه عن الشعوب لئلا ينتفعوا به كما تنتفع به، وكان العلم مشاعا في عصرها بين كل الأمم، وكان العلماء في عهدها موضع التجلية على اختلاف شعوبهم وأديانهم، وكان علمهم موضوع التقدير والاحترام، وتشد إليه الرحال في سائر الأقطار، وتبذل نفائس الأموال في الحصول على كتبه من بلاد الروم، ومن بلاد غيرهم من الأمم السابقة في الحضارة، فلم يكن هناك حواجز من دين أو غيره بين العلماء، ولم يكن هناك حواجز من دين أو غيره بين العلماء والملوك، فأجتمع العلماء إخوانا في مجالس العلم، لا فرق بين مسلم ونصراني، ويهودي ومجوسي، وصائبي ووثني، وقد أزالت رابطة العلم ما بينهم من فوارق، وغمرتهم بفيض عظيم من التسامح، إذ كان شعار هذه الأمة التي جمعت بينهم، أن الحكمة ضالة المؤمن يطلبها أن وجدها، وأن العلم غاية المسلمين يطلبونه ولو بالصين، وأن فضل العالم على العابد كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى رجل من المسلمين.
ولم يكن هذا كله إلا لأن القرآن الكريم رفع شأن العلم والحكمة على كل شأن، وجعل تعليم الحكمة من الأغراض التي بعث من اجلها الأنبياء، ليقضوا بها على الجهل والطغيان، ويجعلوا مقام العلماء فوق كل مقام، فتصلح الدنيا بعلمهم وحكمتهم، ويسعد الناس بهد يهم وإرشادهم.
وقد جاء تنويه القرآن الكريم بالحكمة على وجوه شتى، فمرة ينوه بشأنها في ذاتها، كما جاء