عرضت لنا من قبل فرصة للتعريف بنشأة الأزهر الجامعية، وكيف أنه أنشئ في البداية ليكون مسجداً رسمياً للدولة الفاطمية، ثم نشأت صفته الجامعية في ظروف عرضية، ولم تلبث أن استقرت بعد ذلك وتأثلت؛ وذكرنا ما كان للوزير ابن كلس من كبير أثر في إسباغ هذه الصفة العلمية الجليلة على الأزهر، وكيف أنه يعتبر منشئ الجامعة الأزهرية في معنى من المعاني
والآن نذكر طرفا من الآثار الفكرية التي ترتبت على قيام هذه الجامعة الإسلامية الكبرى في عصرها الأول، أعني في العصر الفاطمي، ونذكر أيضاً بعض أعلام التفكير في هذا العصر ممن تولوا التدريس في هذا المعهد الجليل أو تخرجوا فيه أو اتصلوا به وبحلقاته اتصالاً كان له أثر في تكوينهم الفكري والعلمي
لم تبلغ العلوم والآداب في ظل الدولة الفاطمية من التقدم والازدهار ما كان خليقا أن تبلغه في ظل هذه الدولة القوية الباذخة؛ ذلك أن الدولة الفاطمية كانت لظروفها الدينية والسياسية ترمي إلى الإنشاء في كل شيء، ولم ترد أن تقوم على تراث الماضي أو أن تستأنف السير به؛ ولم يمد لها في عهد الإنشاء الفتي، فلم يأت منتصف القرن الخامس حتى سرت إليها عوامل الانحلال والوهن
وقد كان هذا شأن الحركة الفكرية، فإنها لم تلبث طويلاً في قوتها وازدهارها. وكان الأزهر، وهو يومئذ إلى جانب دار الحكمة والمسجد الجامع، من صروح الحركة الفكرية، يتبع مصاير هذه الحركة من قوة وضعف، فلم يبلغ في هذا العصر، - عصر الإنشاء والنمو - ما بلغه في العصور التالية من التقدم والأخذ بزمام الحركة الفكرية؛ ومن ثم فإنا لا نستطيع أن نحصي في هذه المرحلة من تاريخ الجامع الأزهر كثيراً من الأعلام الذين تخرجوا في حلقاته أو درسوا فيها. والواقع أنه من الصعب أن نعين بالتحقيق من تخرج في الأزهر من أعلام التفكير والأدب في هذا العصر، وإن كنا نستطيع أن نعين بعض الأساتذة الذين تولوا التدريس في حلقاته؛ ذلك أن الأزهر لم يكن ينفرد يومئذ بتنظيم الدراسة العالية، بل كان إلى جانبه دار الحكمة تنافسه وتتفوق عليه أحياناً، والمسجد الجامع