أنتقل الآن إلى الكلام عن اعتقاد أبي الطيب، وهو الموضوع الذي زلت فيه أقدام كثيرين، إما لميل إلى الرجل أو عليه، وإما لاكتفائهم من البحث بأدنى نظرة، وتعلقهم مظاهر من القول دون نفاذ إلى حقيقته ولا تطلع إلى ما حف به من قرائن. والحيطة في هذا ضرورية لمن يريد استنباط أمور من الشعر العربي وخاصة في عصر كعصر أبي الطيب فشا فيه المدح والغلو والتلاعب بالألفاظ، وأصبح كل مادح على مذهب ممدوحه في الأغلب، فإن كان شيعياً أشاد الشاعر بسراة الشيعة ورفع من مقالتهم، وإن كان يقول بالتناسخ مال الشاعر إليه، وان كان معتزلياً أو سنياً فالشاعر معتزلي أو سني. . وهكذا دواليك
فشت هذه الظاهرة من النفاق في الناس وكانت أشد ما تكون في الشعراء، حتى لقد شهد المعري عليهم وعلى عصرهم بذلك؛ وحسب التاريخ شهادة شيخ المعرة، فقد أيدها بالدليل، وأرسل فيها قولاً حكيما يعرف رشده وصوابه كل من أمعن الفكرة، ولم يكتف بالنظرة. قال بعد أن ذكر تنبؤ أبي الطيب والأبيات تدل على تألهه:
(وإذا رجع إلى الحقائق فنطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان، لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق، ويحتمل أن يظهر الرجل بالقول تديناً وإنما يريد أن يصل به إلى ثناء أو غرض؛ ولعله قد ذهب جماعة هم في الظاهر متعبدون وفيما بطن ملحدون. وما يلحقني الشك في أن دعبل بن علي لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع وإنما غرضه التكسب؛ ولا أرتاب في أن دعبلاً كان على رأى الحكمي وطبقته، والزندقة فيهم فاشية ومن ديارهم ناشئة.)
وقال في موضع آخر:(وفي الناس من يتظاهر بالمذهب ولا يعتقده، يتوصل به إلى الدنيا الفانية، وكان لهم (يعني القائلين بالتناسخ) في المغرب رجل يعرف بابن هانئ وكان من شعرائهم المجيدين فكان يغلو في مدح المعز غلواً عظيما حتى قال فيه وقد نزل بموضع