لعل يوم الجمعة التاسع عشر من هذا الشهر كان أروع أيام سعد!
انتصر فيه وهو رفاتٌ وفكرة وذكرى على الحقد الذي طالما نبح
المجد، وعلى السلطان الذي طالما قهر الزعامة.
كانت روعة أيامه الغر التي أسفرت عنها ليالي مالطا وسيشيل وجبل طارق من شخصيته التي طاولت العروش، وعزيمته التي صاولت الجيوش، وبلاغته التي عاجزت القدر؛ أما يوم نقل الرفات إلى الضريح الرسمي فكانت روعته من الفكرة التي ثبتت على الاضطهاد وغلبت على الاستبداد وظهرت على الإفك ظهور الدين على الشرك بالإيمان والإخلاص والتضحية. وسر الجلالة العظمى في سعد أنه كان وهو حي يمثل كبرياء الشعب، ثم اصبح وهو ميت يمثل سلطان الأمة. كان يمثل كبرياء الشعب لأنه خرج منه ونبغ فيه، فكان حجة له على كبرائه الذين كانوا يتأبهون عنه، ويلمزونه بالضعة، وينبزونه بالفلاحة؛ ثم عاد يمثل سلطان الأمة لأن جهاده الباسل بها ولها جعل اسمه رمزاً للاستقلال وعلماً على الدستور وعنواناً على الديمقراطية. فمظاهر الفرح المستطير، أو الحزن المُرمض، أو العزة المستطيلة، التي أعلنها الشعب يوم خرج من معتقله أو رجع من منفاه، ويوم الاحتفال بوفاته أو بنقل رفاته، كانت مظاهر صادقة لعواطفه المتحدة، صدرت عنه بدافع من نفسه وباعث من شعوره، لأن سعداً لم يعدْ رجلاً محدود الوجود بذاته ومميزاته ورغائبه، وإنما أصبح معنى مقدساً من معاني الشمول يختصر في نفسه خصائص جنسه، ويجمع قلبه أمانيَّ شعبه؛ فهو علم يخفق بالأمل، ومنارة تشع بالهداية، ورسول من رسل القيادة الذين يبعثهم الله إلى الناس في متاهة السُبل وضلالة النفوس فيكونون رمزاً لرجاء الإنسان في الله، ومثالاً لرحمة الله بالإنسان.
كانت النفس المصرية في ذلك اليوم المشهود على حال عجيبة من شتى الأحاسيس ومختلف العواطف: سرور مَزْهُوٌّ بفوز الإرادة القومية واستطاعتها بعد تسع سنين أن تصحح خطأً فادحاً من أخطاء الغرور الجاهل، وحزنٌ دخيل هادئ لاحتجاب الشعاع وقد غام الأفق واستعجم المسلك، ثم شماتة حانقة تصيح بالجبابرة الضعاف من أفواه الطرق ومنافذ البيوت، وعلى أطوره الشوارع وسُوح الميادين: أنا الأمة! أنا الإرادة الأولى، وأنا