للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[المذياع الآدمي]

للأستاذ عباس محمود العقاد

حالة نفسية غير نادرة، ولاسيما في الأيام الغائمة أو الماطرة.

على الأفق البعيد رباب مسف جاثم، وفي الجو شوب من ضباب كالغبار يحجب صفاء السماء، والأشجار هنا وهنالك كأنما تتوارى من الناس، وعلى النفس سآمة قائمة لا تتحرك كأنها فرغت من النقاش والسؤال عن الأسباب، وخلصت إلى اليقين والقرار، وكل شيء عبث. . . وكل عمل عقيم. . . وما هذه الدنيا القاتمة بالباطل، وما هذا العناء في غير طائل؟ باطل الأباطيل. . . قبض الريح. . . متاع الغرور!

حالة غير نادرة

لكنها لو كانت الحالة الأولى من نوعها لجعلتها فلسفة حياة وصبغت بها وجه الكون، وبسطتها على الدنيا، أو قبضت الدنيا حتى انطوت فيها، وكنت من المتشائمين

لم تكن الحالة الأولى من نوعها، فلهذا لم تكن فلسفة باقية، بل كانت حالة عابرة غير نادرة، واستطاعت النفس أن تنتزع منها زاوية صغيرة يهمس فيها هامس مسموع مستجاب: كلا! ليست الدنيا كذلك. ليست الدنيا كذلك. . . إنما هي نوبة تزول، وركود راحة بعد جهاد، أو ركود استجمام قبل وثوب

وحالة أخرى غير نادرة، ولاسيما في أيام الإشراق والنضرة والإقبال، صيفا كانت أو شتاء، وربيعا كانت أو خريفا. فهي شائعة موزعة بين جميع المواسم والفصول

لمعة الشعاع على الصخرة الملقاة تبعث الفرح من أعماق السريرة، ورجفة الورقة على الغصن رقص وانتشاء، ومشية المسرع استطارة سرور، ويمشي المتأني فكأنه يتملى متعة المشي ويستوفي نعمة الرياضة، ومنظر الشجرة كأنها باثفة تنطلق في السماء، وليست بالجاثمة المقيدة بالغبراء، وكل شيء حسن كما هو في غير حاجة إلى تفسير أو عافية منظورة، وليس في الإمكان أبدع مما كان

حالة غير نادرة

لكنها لو كانت الحالة الأولى من نوعها لجعلتها كذلك فلسفة حياة ونفثتها في ضمائر الكون، ورأيت الدنيا معها فردوسا سماويا لا حدود فيه ولا انتهاء لمشاهده ومعانيه، وكنت في

<<  <  ج:
ص:  >  >>