أعجبت أشد الإعجاب بسلسلة مقالات (الجمال البائس) للأستاذ الكبير مصطفى صادق الرافعي وتتبعتها بمجلة (الرسالة) الغراء؛ وأعجبت منها خاصة بتصويره للقانون في مقاله الأخير ورميه بالفجور وقوله على الأستاذ (ح): (فالحقيقة التي لا مراء فيها أن فكرة الفجور فكرة قانونية، وما دام القانون هو الذي أباحها بشروط، فهو هو الذي قررها في المجتمع بهذه الشروط). وهذه فكرة كانت ظاهرة خافية معاً؛ فهي في القانون ولم ينتبه لها أحد ولا من رجال القانون. وقد صار من حق (الرسالة) وقرائها عليَّ أن اكشف هذا المعنى كشفه القانوني ليعرف القراء كيف غُرس الفُجور غرساً في قوانيننا المصرية.
لا مشاحة في أن قانون العقوبات قد اهتم لعقاب الجريمة بعد وقوعها اكثر من اهتمامه بالاحتياط لها والعمل على منعها قبل حدوثها؛ فمهمته في الواقع لم تخرج عن بيان الأفعال التي يعتبرها الشرع جرائم ومقدار الجزاء على كل منها، فهو يتضمن القواعد الموضوعية للقانون؛ بينما اهتم قانون تحقيق الجنايات (بالنظم والإجراءات) التي يجب أن تراعى لتنفيذ قانون العقوبات، أي لمعرفة الجاني إذا ما وقعت الجريمة، فهو يتضمن القواعد الشكلية فكلا القانونين اهتما كما قال الأستاذ الرافعي (لحالة الجريمة لا للجريمة نفسها) وتركا مسألة الجريمة وبلا احتياط لمنعها قبل حدوثها للقوانين البوليسية وللعقوبات الأدبية، وبهذا أضافا للخطأ خطأ آخر إذ أغفلا مسألة واقعة وهي أن العقوبة الأدبية قد أضعفتها عوامل المدنية الحاضرة ولم يبق في أكثر النفوس إلا سلطان القانون وحدوده. .
والسبب في تقصير القوانين الجنائية هذا التقصير الفاضح وخاصة في بلاد إسلامية تتخلق بأخلاق الفضيلة، هو أجنبية هذه القوانين فإنها فرنسية الأصل، فرنسية الوضع، فرنسية التطبيق، فرنسية المرجع، فمن ثمَّ لا يؤدي إلا ما تؤديه القوانين الفرنسية في بلادها. أما حالات الشرق الخاصة وتقويم تقاليده وأخلاقه، فهي عمياء عنه أو تخبط في عمياء؛ ومن البلاء أن نقل هذه القوانين كان من عمل متشرعين أجانب بعيدين عن المحيط القومي فنقلوا نقلاً ممسوخاً أضاع كل فائدة ترجى وخاصة في صميم المسائل الأخلاقية الشرقية. بل إن القانون وقف من هذه الأخلاق موقف الجامد الغافل أو المشجع المستهتر بالأباحة.