(يا أيها الآباء: إن الذي لا يعتبر بغيره، يصير هو عبرة
للناس)
للأستاذ علي الطنطاوي
إن الحياة تؤلف قصصاً، يعجز أبرع أهل الفن عن توهم مثلها؛ ولكن الحياة لا تذيع (مؤلفاتها) ولا تعلن عنها، فتبقى (مخطوطة) مخبوءة لا يصل إليها ولا يقرؤها إلا رجل حديد البصر، طويل اليد، ذو جلد على البحث وصبر على التنقيب، ولست ذلك الرجل، ولا أنا من عشاق المخطوطات ورواد المباحث، ولكن الأيام ألقت هذه القصة في طريقي؛ فوجدتها (مطوية) في سجلات محكمة من المحاكم، مقطعة الأوصال، مفرقة الأجزاء، فألصقت أوصالها، وجمعت أجزاءها و (نشرتها) في الرسالة، ومالي فيها إلا الرواية!
بدأت هذه القصة في مخفر للشرطة في مدينة (كذا) في ظهيرة يوم وهج عصيب من أيام تموز تسعر فيها الجو، وأقفرت الشوارع من السالكين إلا سالكاً بسيارة تطوى له الأرض، أو عربة تخب به خيولها يقطر العرق من صدورها وأعرافها، أو صاحب حاجة مفلساً يخوض الهاجرة ماشياً في قضائها، أو موظفاً مسكيناً انصرف إلى منزله لا يجد إذا كان أميناً أجرة سيارة ولا عربة ولا حمار لو أنها كانت تؤجر الحمير الآن، كما كانت تؤجر من زمان. . .
وكان في المخفر أربعة من الشرطة قد نزعوا أرديتهم، وحلوا مناطقهم، واستلقوا على مقاعدهم في كسل وارتخاء، واستسلم كل لأفكاره وهمومه، أو انطلق سادراً في أودية الأحلام؛ فذو العيال منهم يفكر في هم البيت ومشاكل النفقات، والخبيث يكد ذهنه يفتش عن شيء براني وما أهون الوصول إليه في هذه الأيام التي فشت فيها الرشوات والبراطيل حين غلت الأشياء كلها ولكن رخصت الضمائر، وسعرت الحكومة الأشياء كلها وتركت الذمم، والعزب التقي يداري من شهوته مثل لذع النار تؤرثها مشاهد الطريق، ويحبسها خوف الله والعار، إن كان قد بقى في (العشق. . .) اليوم من عار.