ما هي العوامل التي دفعت ابن الوردي دفعاً إلى أحضان الخمول فارتضاه لنفسه مذهبا ومعتنقا يجد فيه لذاذة وسعادة؟. . أن من كان في مثل فضله وعلمه، من حقه على الدنيا أن تنبيه شانه، وتسعى إليه، وترفه عنه، وتنوه به، وتيسر له. فهل أبلغت الدنيا ابن الوردي آماله، وأفسحت له سبيل المال والجاه؟ كلا. . لقد روى انه دخل الشام مرة، فقرة باد في رثائه هيئته ورداءة نظره، فحضر مجلسي القاضي نجم الدين بن صصري من جملة مشهودة. فاستخفوا به وأجلسوه منهم مجلسا بعيداً؛ ثم أرادوا كتابة مبايعة ملك. فقال بعض الحاضرين مشيراً إلى ابن الوردي (أعطوا المعري بكتب المبايعة)، على سبيل الاستهزاء به. فقال ابن الوردي:(اكتبه لكم نظاماً أم نثراً) فزاد استهزائهم وقالوا (بل نظاما) فأملي لساعته نظاما لطيفا ذكر فيه اسم البائع والمشتري وحدود المبيع والشهود والتاريخ وما إلى ذلك. فاقبل القوم عليه معتذرين؛ وقد عرفوا مكانه.
فنكران المنزلة وضيق الرزق وقلة الجاه في مقدمة أسباب خموله.
وقد كان ابن الوردي - فضلا عن علمه وأدبه - ذا نفس أبية تربا به مواطن الذل، وتنأى به عن مهاوي الخضوع ولو حرم في سبيل ذلك ما يشتاق إليه من المجد: يقول:
وما جهلت نفسي المعالي وطيها ... ولكن رأت أن السلامة أطيب
أصون الذي علمته عن مذلة ... فللعز في الدارين قد كنت أتعب
ورحت خفيف الظل عن حمل منة ... لمفتضح بالمكر وهو محجب
على الله رزق الوارثين وغيرهم ... فبعدا لشخص من سوى الله يطلب
وقد كان ابن الوردي - إلى جانب ذلك كله - ذا أسرة ضخمة، فقد ترك له أبوه جملة من الأشقاء، ورزقه الله عدة من البنات. وهذه حالة تتطلب السعي الدائم، والكد والمجادلة، وبذل