لا نظن بعد الذي تقدم أن الرئيس ابن سينا قد ادخر وسعا في إثبات حقيقة مغايرة للجسم ومتميزة عنه كل التميز، وأن في الكائن الحي شيئا غير لحمه ودمه هو مصدر حركته وحسه وتفكيره. وسواء أكان موفقا في برهنته دائماً أم لا فالمهم أنه أعتمد - كما اعتمد أنصار المذهب الروحي قديما وحديثا - على بعض الظواهر التي لا يمكن تفسيرها ماديا، وأرى أنها تستلزم قوة كامنة ومبدأ خفيا هو النفس. وهذه الظواهر قسمان: جسمية وعقلية؛ ومن الأولى يتطرق الخلل والوهن غالبا إلى برهنته. ففي اللحظة التي يتحدث فيها عن الإحساس أو الحركة زاعما أنها لا تفهم إلا إن سلمنا بقوة روحية تشرف عليها وتنظمها نراه يبعد عن الآراء الحديثة كل البعد؛ أما حين يعرض للشخصية والتفكير والظواهر النفسية في وحدتها واتصالها ويقرر أنها تستدعي أصلا غير الجسم وأمرا مخالفا للبدن فانه يدلي بأفكار تقربه من المحدثين بقدر ما تبعده عن زملائه ومعاصريه. وهذا هو الجزء الذي بقى للخلف من برهنته، والذي يجدر بنا أن ندخره ونحتفظ به. ولسنا ندعي مطلقا أنه أثبت وجود النفس بأدلة هي اليقين وحجج لا تقبل النقض؛ فتلك كانت ولا تزال مشكلة المشاكل وموضوع الخلاف بين الماديين والروحيين. والمهم أنه اهتدى في هذا الباب إلى أكثر البراهين إقناعا وأعظمها وضوحا.
والآن وقد فرغ من إثبات وجود تلك الحقيقة المخالفة للجسم فلا بد له من أن يحددها ويبين ماهيتها ويعين خواصها ومميزاتها. وليس تحديد النفس من الأمور الهينة؛ فقد كان مثار اختلافات كثير بين الفلاسفة الأقدمين، ومبعث أخذ ورد طويلين بين أفلاطون وأرسطو بوجه خاص. ولم يكن ابن سينا بعيدا عن هذه الآراء المتباينة والمذاهب المتفرقة، فإن الباب الأول من كتاب النفس لأرسطو، الذي يعد حجته الأولى ومصدره الرئيسي، موقوف في جملته عليها وخاص بعرضها ومناقشتها. وسيراً على سننه يعقد في كتابه الشفاء فصلا