(في ذكر ما قاله القدماء في النفس وجوهرها ونقضه) وفيه يلخص كل ما جاء في الباب الآنف الذكر. ليبين مذاهب الفلاسفة السابقين، ويناقشها على نحو يشبه كثيراً ما صنعه أرسطو. واختلاف هؤلاء الفلاسفة في رأيه راجع إلى أن للنفس أثرين ظاهرين هما الحياة والحركة من جانب والإدراك من جانب أخر، ففريق بهره الأثر الأول وحاول تجريد النفس بواسطته فقط، وفريق آخر لم يفهم في طبيعتها إلا الإدراك، وفريق ثالث رأى أن يجمع بين هذين الجانبين. ويراد بالفريق الأول كل أولئك الذين عدوا النفس مصدر الحياة والحركة الذاتية، فخلطوا بينها وبين الدم الذي إن سفح كان الموت، أو بينها وبين الجواهر الفردة - أو الهباء كما يسميه ابن سينا - التي كان يظن أنها متحركة دائماً. وأما الفريق الثاني فيعتقد أن الشيء لا يدرك سواه إلا إذا كان مبدأ له ومتقدما عليه؛ ولذلك عدوا النفس واحداً أو جملة من المبادئ التي يختلف نوعها وعددها تبعا للفلاسفة فظنوا أنها نار أو هواء أو أرض أو ماء أو بحار؛ أو جعلوها مركبة من العناصر الأربعة كما ذهب إلى ذلك أبناء دقليس زعما منه أن الشبيه هو الذي يدرك الشبيه، فلا بد أن يكون في النفس جزء من الأشياء التي تدركها وأما الفريق الأخير فيرد النفس إلى العدد لأن الأعداد مبدأ الوجود والحركة والإدراك
واضح أن ابن سينا يشير في كل هذا إلى آراء الفلاسفة السابقين لسقراط في النفس، أمثال طاليس وديمقريط وفيثاغورس وإن كان لم يصرح بأسمائهم. ولم يقنع بتخليص هذه الآراء، بل ناقشها مناقشات طويلة عنيفة نكتفي بأن نسرد أمثلة منها. فيعترض على الفريق الأول أنه لم يفسر السكون، ذلك لأن النفس أن كانت متحركة بذاتها فكيف تسكن. على أنه ليس من السهل على هذا الفريق أن يحدد نوع الحركة الذي تقوم به النفس. ويرفض المذهب الذري الذي أثبت بطلانها في نواح أخرى. ولا يخفى تهكمه بأولئك الذين يزعمون أن الكائن لا يدرك إلا ما صدر عنه ملاحظا أن الإنسان يعلم أشياء كثيرة لم يقل أحد إنه أصل لها. وليس بصحيح مطلقا أن الشبيه فقط هو الذي يدرك الشبيه، لأنه لو سلم هذا كان معناه أن العالم العلوي لا يعرف من أمر العالم السفلي شيئا
ليس هناك شك في أن وقوف ابن سينا على هذه الآراء ومناقشته لها قد هيأت له الفرصة لتخير أحسن تعريف يلتئم مع طبيعة النفس ووظائفها. إلا أن هناك عاملين قويين يقتسمانه.