للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٣ - من ذكرياتي في بلاد النوبة:]

في جنح الليل!

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

ألقت بنا الباخرة إلى مرفأ عنيبة، وسط ضجيج الحمالين، وصيحات الركاب، وضوضاء البحارة، الذين شرعوا بمساعدة الحمالين ينزلون أمتعتنا، وأمتعة فضيلة قاضي عنيبة المنقول من إسنا إلى هذه البلدة النائية، والبضائع الكثيرة المرسلة إلى المدرسة من خضر، وفاكهة، وبعض العُلب والصفائح المليئة بالمسلى وغيره، مما لا يكاد يوجد منه شيء في عنيبة، ويجلبه المتعهدون من أسوان وغيرها من بلاد الصعيد الوفيرة الخيرات. .

ولم نجد في الحمالين شهامة ونجدة، ونشاطاً وإسراعاً إلينا، كما نجد هذا في حمالي القاهرة أو مديريات الوجه البحري، وبعض مديريات الصعيد مما يلي القاهرة، حتى ليهرع إليك عدد من الحمالين قد لا يكون إليك حاجة بهم، ومع هذا يكاد كل منهم أن ينتزع أمتعك منك، ويحملها عنك. . . وإنما وجدنا فيهم تباطؤاً وكسلا، وتوانياً، جعلنا نصرخ فيهم، ونشتد معهم في المعاملة، ونقسو عليهم في القول، وهم يتهربون، ويتسللون لواذاً، وكأنما نريد أن نستغلهم استغلالا، وأخيراً قالوا لنا: دعوا أمتعتكم، واذهبوا إلى المدرسة، وسنوافيكم بعد مدة، عندما ترحل الباخرة. .!!

ونظر بعضنا إلى بعض نظرات ملؤها الدهش والعجب، والحيرة والارتباك، إذ كيف ندع أمتعتنا على الشاطئ بين فئة لا ندري من أمرها شيئاً؟! وكأنما زاد مخاوفنا ظلام الليل، الذي لم تجد أضواء الباخرة شيئاً، بل كانت هذه الأضواء مع قوتها ضعيفة واهنة، وكأنها أشعة خافتة لنجم كليل!! وكانت أمواج النيل الصاخب، تضطرب في عنف، وترتفع إلى حيث نقف مع الجموع المستقبلة للباخرة وتقبل منا الأقدام، في ثورة خانقة، وغيظ صارخ فتبلل أحذيتنا، ولكنا من فرط ما نحن فيه من دهشة وعجب واستغراب، لا نكاد نشعر بهذه الأمواء، ولا نحس لها أثراً؟!

وضاقت صدورنا. لأننا وقد أثقلتنا هذه الأحمال والأمتعة، لا نجد من يسرع في حملها حيث نريد. . وتطلعنا حوالينا، فلم نجد إلا النيل شرقاً، رحباً مخيفاً، والجبال غرباً، بشبحها المظلم القاتم، وكأنها حراس علينا، تشرع في وجوهنا أسلحة لا نطيق لها صبراً، ولا عليها

<<  <  ج:
ص:  >  >>