للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[هما]

للأستاذ أحمد أمين

(هما) إنسانان متباينان، لا يجمعهما إلا أني عرفتهما

أما (هو) الأول، فنظيف الثوب في غير أناقة، لا يعنيه من ثيابه إلا أنه لا يتأذى بقذارتها، ولا يتأذى من أنها زاهية تستلفت الأنظار - قد طبع على ما يود، فلا هو جميل يقيد النظر، ويغترق البصر؛ ولا هو قبيح الشكل سمج المنظر، تتفاداه العيون، ويلفظه الطرف، لو عهد إليه أن يخلق نفسه ما اختار غير صورته وشكله، لأنه يأبى تكاليف الجمال تكاليف القبح

كثير التفكير في نفسه، كأن الله لم يخلق في العالم إلا هي، وإن قد كان خلق أشياء فنفسه مركزها، دائم المحاسبة لنفسه على ما صدر منها للناس، ودائم المحاسبة للناس على ما صدر منهم لنفسه، ففي نفسه محكمة منعقدة باستمرار، تطول فيها المرافعة، ويشتد فيها الخصام، وتكثر منها الأحكام، والنقض والإبرام - حدثني أنه إذا جلس في مجلس استعرض بعد الفراغ منه كل ما دار فيه على الترتيب، كأن ذهنه (شريط ماركوني) ثم وقف عند كل كلمة صدرت منه يفحصها، هل مست شعور أحد، هل ظلمت أحدا، هل جرحت كرامة أحد، ألم يكن غيرها خيرا منها، أما كان يحسن أن يقال في مثل هذا الموقف غير هذا الكلام؟ ووقف عند كل كلمة قالها غيره يحللها، ماذا يريد منها، لقد جرح إحساسي بها، لقد كان يلتفت إلي عندما قولها، وما سبب ذلك والعلاقة بيني وبينه على خير ما يكون صديق لصديقه، لابد أن يكون قد تأثر من كذا وغضب من كذا، ولكن إن كان هذا فلا حق له لأنه لم يفهم قصدي ولم يتبين غرضي. فإذا أتم ذلك وأوى إلى فراشه بدأ يعيد الشريط من جديد، ويعلق على الحوادث تعليقات جديدة، ويفسرها تفسيرا جديدا، حتى يدركه النوم، وقل ألا يحلم بما حدث، وقل ألا تأتيه الرؤيا بتفسيرات جديدة وتعليقات جديدة

من أجل هذا يفر من الناس، ويفر من المجتمعات، حتى لا تكثر الأشرطة فيكثر عرضها، والتعليق عليها، فقل أن أجاب دعوة مع كثرة ما وجه إليه من دعوات، لأنه مع هذا ليس ثقيل الظل ولا جامد النسيم، فإذا أظطر إلى دعوة ذهب إليها كارها، وحسب حساب كل كلمة يتكلمها، وكل حركة يتحركها قبل أن يقدم عليها، تفضيلا للحساب العجل على الحساب

<<  <  ج:
ص:  >  >>