الآجل، فقل أن يأخذ الناس عليه غلطة مع كثرة ما يتوهمه هو من غلطات
أداه التفكير الكثير في نفسه إلى أن يكون عميق التفكير في كل ما يعرض عليه، فإذا عرض أمر قلبه على جميع وجوهه، وغاص في نواحيه، واستخرج منها أدق الأفكار وأصعبها وأعقدها، وشغف بالعلم فكان دائب الدرس، كثير الاطلاع، تثقف بالثقافة الإنجليزية فهو يتكلمها ويقرؤها كأحد أبنائها، وسمع بعمق التفكير الألماني فعكف على اللغة الألمانية حتى حذقها، وحدثه الأدباء بالأدب الفرنسي وما فيه من دقة في تحليل العواطف وإجادة الوصف، فدرس اللغة الفرنسية حتى أجادها، وتضلع من آداب اللغات الثلاث، وعرف أشهر ما كتب فيها، فإذا حدثك في أية ناحية منها أبان لك عن علم واسع، ومعرفة دقيقة هذا إلى لغته العربية ومعرفته بها كأنه متخصص فيها - ثم هو بعد لا يرضى عن نفسه، فهو دائم الدرس، دائب العمل، كلما قطع شوطا طمح إلى ما هو أرقى منه؛ فكأنه ومطامحه كالفرس وظله يجري دائما ليسبقه؛ وهيهات أن يلحقه
وهو مع كل علومه وكل لغاته وكل عمقه خامل مجهول، لا يعرف حقيقته إلا خلصاؤه، إن جلس مع غيرهم فعيي جهول لا يشاركهم في جدل، ولا يفضي إليهم بحديث، يعرف مواضع السخف من قولهم، ومواضع النقص في تفكيرهم، ويتظاهر بأنه لا يعي ما يقولون، ولا يرقى إلى ما يفكرون ويجادلون، يتغابى وهو الذكي، ويتعايى وهو الفصيح
لا يعبأ بالمال إلا بمقدار ما يعيشه عيشة نظيفة من غير ما ترف ولا سرف. عرضت عليه يوم (وظيفة) يكاد ينال منها ضعف مرتبه فرفضها في غير تردد لأنه يرى أنه لا يصلح لها ولا تصلح له، ولا تتفق ونفسه، ولا يتقنها إتقان عمله الذي يقوم به
ثم هو - غالبا - لا يحب رؤساءه ولا يحبه رؤساؤه، فهو لا يحبهم لأنه يتطلب فيهم كمالا لا تسمح به الدنيا إلا نادرا، ويقيس الكمال بمقياس محدود معين، مع أن للكمال مناحي مختلفة، وقد يتسامح في نقص يستره كمال، ويغتفر ضعف تسنده قوة، ولكنه في تقديره يجسم النقص، ويكبر الضعف، ويريد في رئيسه الكمال صرفا، والقوة خالصة، فكأنه يريده نبيا أو إلها، وأنى له بذلك؟ فهو في نقد له مستمر، وتجريح دائم - وأما هو فيكرهونه لأنه حنبلي في تصرفه - متزمت في خلقه، صريح لا يلطف صراحته بلباقة، شديد لا يمزج شدته برقة، التصرف عنده كالخط إما أن يكون مستقيما أو أعوج ولا وسط بينهما، ولا