كلما خطر بالبال أو جرى على اللسان ذكر مولد محمد صلى الله عليه وسلم تذكرنا الدين الذي جاء به فكان فارقاً بين الحق والباطل، وحدا فاصلاً بين عهود خلت لبستها الإنسانية وأخلقتها بعد أن اجتوتها، وعهد جديد آهل بالعز والكرامة. حقاً لقد كان ميلاد الرسول إيذاناً بانتهاء ما سبقه من أديان كانت مناسبة لمن جاءت إليهم، وباستهلال الإسلام الدين الخالد الصالح للناس جميعاً؛ لا فرق بين بدو وحضر، وسود وبيض، وشرقيين وغربيين، تقدم بهم الزمان أو تأخر
وليس من العجب أن يجيء دين صالح عام بعد دين قاصر خاص، بل كان يكون العجب ألا يكون هذا التدرج الذي عرفه التاريخ. لقد ولدت الجماعة البشرية طفلة، وترقت - شأن كل الكائنات الحية - جيلاً فجيلاً، فمرت من الطفولة للشباب، وانتهت أخيراً لدور الرجولة الرشيدة الكاملة. وكان من حكمة الله اللطيف الخبير أن تتفق الديانات التي تعبّد بها عباده في الأزمان المختلفة، وعقول من أرسلت إليهم ومداركهم وحاجاتهم. لهذا رأينا الرسول يتبع الرسول، والدين يجيء في أثر الدين، وكل له ناسه المحدودين وزمنه الموقوت، حتى بعث المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام يدين الناس جميعاً والإنسانية عامة، فتمت به نعمة الله على عباده وكملت لهم السعادة
ولنعرف قيمة منة الله على العالم بأسره بميلاد محمد وبعثه بتاج الأديان، يجب أن نقلب بعض صفحات التاريخ، ونتذكر قليلاً حالة المسيحية التي كانت لها السيادة قبل الإسلام على جزء كبير من العالم المعروف بالمدنية حين ذاك
لقد ظهرت المسيحية في عصر كان المال هو المعبود من دون الله، وكانت الشهوات حتى الوضيع منها هي التي تأخذ على الناس أمرهم وتوجههم في أعمالهم، طلباً لها وتهافتاً عليها كما يتهافت الفراش على النار. وحسبنا أن نعلم أن مذهب أبيقور، في أوضع ما اتخذ من صور إباحية، كان مذهب الكثرة الغالبة، في بلاد الرومان ميدان نشاط المسيحية بعد مهدها الأول وهو الشام. غلو من اليهود في طلاب المال وجمعه من كل النواحي وبسائر الوسائل، وغلو في الافتتان بالشهوات ومتع الحياة الدنيا. هكذا يمكن تصوير ما كان يسود العالم من