من أجل ذلك كان طابع المسيحية زهداً شديداً، ولهذا رأينا المسيح عليه السلام معرضاً تمام الإعراض عن الدنيا وحاثا حوارييه وأتباعه على التخلص منها ومن أسرها ومفاتنها، ومؤكد أن ملكوت لن يفتح للأغنياء، وأنه سيكون وقفاً على الفقراء. لكن للنفس شهوات يجب أن ترضى في قصد، لهذا كان من الطبيعي ألا يطيق من جاء لهم هذا الدين وصاياه الشديدة، وما يدعو له من زهد وتقشف وترك تام للدنيا؛ (فهب القائمون عليه أنفسهم لمنافسة الملوك في السلطان، ومزاحمة أهل الترف في جمع الأموال، وانحراف الجمهور الأعظم منهم عن جادته بالتأويل، وأضافوا إليه ما شاء الهوى من الأباطيل).
ولعل من الخير أن نذكر شاهداً ودليلاً على ما نقول من تهالك عامة رؤساء الدين المسيحي أنفسهم على الدنيا. روى ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق في خبر طويل أن سلمان الفارسي - وكان في بدء أمره مجوسياً من أهل أصبهان - صبأ إلى المسيحية، إذ أخذ بقلبه ما سمعه من صلوات وتراتيل دينية، فغافل أباه - وكان دهقان قرية - وفر إلى الشام ليأخذ علماً من علم أهل الإنجيل وليتصل برؤساء هذا الدين. ولما وصل إلى تلك البلاد سأل عن أفضل هذا الدين علماً، فدُلّ على أُسقُفْ الكنيسة، فذهب إليه واستأذنه في خدمته ليتعلم منه ويلتمس من فضله. . . وهنا أترك الحديث لسلمان نفسه يقول:(وكان - يريد الأسقف - رجل سوء؛ يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئاً منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قِلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع). ولما مات وقفت النصارى على ما كان يفعل، وأريتهم موضع كنزه فاستخرجوه، وحنقوا على الأسقف وقالوا والله لا ندفنه أبداً.
ومما يجب أن يلاحظ - وقد بلغنا هذا الموضع من نبأ سلمان - أن النصارى أقاموا بعد الأسقف الذي ذكرنا خبره آخر لم ير سلمان أفضل منه وأزهد في الدنيا، فأقام معه زماناً، ولما حضره الموت طلب إليه أن يوصي به من يرى فيه الخير مثله فقال له:(أي بني، والله ما أعلم اليوم أحداً على ما كنت عليه، فقد هلك الناس وبدّلوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل، وهو فلان وهو على ما كنت عليه فألحق به). فعل سلمان وحمد لصاحب الموصل - وقد خبره - دينه وأمره، ولما حانت منيته لم ير من يوصي به إليه إلا آخر