دعنا الآن من القاهرة! فبشرُها الباسم قد استسرَّ في قطوب الطبيعة، وشجرها الوارف قد اقشعر من رياح الخريف، وهدوءها الشاعر قد غاب في صخب الفتنة؛ وكأنما خفقت في جوها المستنير الصفو أبابيلُ سودٌ من طيور الليل!
دعنا الآن من القاهرة! فقد أصيب عِلمها بداء السياسة، ونُكب رأيها بتدليس الهوى، وامتُحن خُلقها بشهوة المنفعة؛ وكأنما فرغ القادة من جهاد الأجنبي ليشوي بعضهم بعضاً في حريق الوطن!
دعنا الآن من القاهرة! وتعال نرفه عن حواسنا وأعصابنا في سكون الريف الآمن، وفي كنف الفلاح المؤمن، حيث الهوى جميع، والخريف ربيع، والطبيعة الكهلة رُواء وغناء وسحر!
يقول (هوجو): (إن الخريف هو الربيع انبعث من القبر ناسياً حُلاه وحُلله) ولكن الخريف المصري في الريف هو الربيع الحق في نضرته وزينته وعطره؛ فبينا ترى الحقول المتصلة في بياض الدمقس أو صفرة النضار، يجردها سبتمبر من القطن الحريري الأشوك والرز العسجدي الهائج، إذا بها في خضرة السندس أو زرقة اللازورد يكسوها أكتوبر أعواد الذرة اللّفاء وقصب السكر الوريق ونبات البرسيم المؤزر؛ فأينما أدرت بصرك لا تجد إلا رياضاً شجراء من شراب وحب، ومروجاً فيحاء من زهور وكلأ. ثم ترى النيل في أعقاب فيضانه كذوب التبْر ينساب هادراً في الترع والقنوات، فيجعل من ضفاف الجداول، وحفافى الطرق، وحواشي الغيطان، سلاسل زبرجدية من الريحان والعشب. وتنزل على الفلاح المكدود سكينة الرضى والأمل، فينقلب شاعراً يتهادى في ظلال الذرة الخفاقة على مدرجة الطريق المخضوضر، وفكره مستغرق في الله الذي يضع البركة في غيطه، أو في المرأة التي تجلب السعادة إلى بيته
هاهو ذا بعد صيفه الجديب المجهد، يستنشي نسيم الراحة بين أولاده على مصطبة الدار، أو بين بهائمه على رأس الحقل، ويتربص بقطنه المخزون الثمن الربيح، ليقضي دينه فيستريح، ويزوج ابنه فيفرح، ثم يكسو عواري الأبدان (بالدبلان) و (الشيت)، ويمحو مرارة الأفواه بالرمان والبلح؛ وترى القرية بذكورها وإناثها تعيش من فسحة هذا الأمل، ودعة هذه الحياة، وبهجة هذه الحقول، في فيض من الرخاء والغبطة لا يسممه كيد، ولا