للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

القصَصُ

الشقاء المقدّس. . .!

(إلى اللائى يعشن في مأتم الروح. . . عزاء من الحياة)

للأستاذ أنور المعداوي

كانت أجمل امرأة في عصرها، وكانت أشقى امرأة. . . أما جمالها فحسبه أنه كان وحياً لأمير النثر الفرنسي شاتوبريان، وأمير الشعر لامرتين، وسيد كتاب القصة الذاتية بنجامان كونستان. وأما شقاؤها فلو قدر لفنان أن يصنع تمثالاً للجمال البائس، أو يرسم لوحة للأمل اليائس، لما وجد لفنه خيراً من قصة مدام ريكامييه!

عندما وفدت إلى باريس عام ١٧٩٣، كانت الثورة الفرنسية المجنونة تلتهم أبناءها من غير رفق ولا هوادة. وكانت نفس الصغيرة جولييت برنار تفيض أسى ولوعة، لمنظر الذاهبين إلى المقصلة: نساء ورجال، في ميعة الصبا وفجر العمر. . . يذهبون إلى غير رجعة. وشعب يصفق للدماء المراقة تجري هنا وهناك، وهو أبداً ظمآن لا يرتوي!. . . أية نفوس تلك التي خلت من معاني الرحمة وأية قلوب تلك التي تحجرت فلا ينبض فيها عرق بعاطفة، وأية عقول تلك أذهلتها القسوة فلا تصغي لصوت برئ ولا تحفل بشكاة مظلوم؟!. . كانت جولييت الفاتنة تحدث نفسها بهذا كله وهي تصبح وتمسي على منظر واحد: مقصلة، ودماء، وشعب يلهو بضحاياه كما يلهو عالم التشريح بحيوان بائس، يئن تحت أطراف مبضعه. . . ولكم ودت أن تفر من هذا العذاب إلى بلد آخر، تنعم فيه بالهدوء والصفاء والأمن، وتلقي بنفسها في أحضان الطبيعة الحانية: تشبع عينيها من النهار المشمس والليل المقمر، وتملأ رئتيها من الهواء النقي، يحمل إليها رائحة الزهر لا رائحة الدم، وغناء الطير لا أنين الضحايا، وتلقي نفوساً لم يدنسها حقد ولا ضغينة، بل يجمع بينها صفاء ووفاء، ووداعة وقناعة، ولكن أين هي من هذا كله؟. . . لقد قدر لهم منذ أن فتحت عينيها على الوجود، أن تعيش في العذاب: إحساساً ورؤية!

كانت في ربيعها الخامس عشر حين كان مسيو ريكامييه يتردد على بيت أبويها، وكان أبواها يدركان أن ريكامييه الثرى وصاحب المصرف الشهير، لا يتردد على بيتهما إلا لأنه

<<  <  ج:
ص:  >  >>