يجد الباحث السيكولوجي في حياة هنريك إبسن أديب نروج الأول، مادة لا تنضب، ومعيناً لا يجف من الدراسات النفسية والانفعالات القوية التي قلما تتوفر في حياة رجل سواه.
ولد هنريك، أظهر شخصية في الأدب المسرحي الحديث، عام ١٨٢٨ في ميناء سكين الصغير على الساحل الجنوبي لنروج، وهو ميناء وهبته الطبيعة جمالاً، أضفى على جباله زهواً وشموخاً دونه زهو جبال لبنان وشموخها
وفي كنف والده، التاجر الثري، قضى هنريك سني عمره الأولى متمتعاً بصيت أسرة من أعرق الأسر وأشرفها. ولكن الدهر قلب، والحال لا تدوم، والنعمة ليست مقيمة. فما أن بلغ الثامنة من عمره حتى مني أبوه بضياع ثروته كلها في عملية تجارية خاسرة، واضطرت الأسرة إلى الانزواء في مزرعة صغيرة على مشارف القرية. وازدادت أحوال الأسرة سوءاً على سوء، وتتابعت عليها الملمات من كل حدب وصوب، فلجأ إبسن إلى معاقرة الخمر يدفن همومه بين كؤوسها، وينسى محنه بين قرع أقداحها. وإزاء الفاقة القاتلة والحاجة الملحة، وإزاء هجرة الأصدقاء وتنكر الدهر، انكمش هنريك الصبي المرهف الحس إلى داره، وعشق الوحدة، وانطوى على ذاته يبثها همومه ويمعن في دراستها وفحصها. فأخذ يحاول تنمية الرسم والتصوير فيه. ولكن الفقر حال دون تقدمها. فهجر الرسم إلى دراسة الطب. وفي الخامسة عشرة من عمره عمل في صيدلية بمدينة جرمستاد. فكان يعاون صاحبها في مد سكان المدينة الثمانمائة بما يحتاجون إليه من مختلف الأدوية ومتنوع العقاقير، وظل خمس سنوات في تلك المدينة يجرع الحياة بالكد والكدح والعناء، ويقضي أيامه تحت رحى الفقر الساحق والعوز المضني، فنمت فيه روح الثورة الفكرية، وترعرعت بين جنبيه روح الانقلاب على العرف والرغبة في التحرر من قيوده
وكان إبسن خلال هذه السنوات الخمس يدرب نفسه على مراس أنواع الكتابة المختلفة، وخرج من ذلك عام ١٨٤٩ بمسرحيته الأولى (كاتالين) وهي مسرحية شعرية ثورية طبعت بعدئذ على نفقة صديق له