فقدت فرنسا في أسبوع واحد رجلين من أعظم رجالها، وسياسيين من أقدر ساستها وكاتبين من أكبر كتابها، هما مسيو لوي بارتو وزير خارجيتها، ومسيو رايمون بوانكاريه رئيس جمهوريتها الأسبق؛ فذهب مسيو بارتو ضحية بريئة في حادث مرسيليا المروع الذي اغتيل فيه الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا، وتبعه مسيو بوانكاريه إلى القبر بعد أيام قلائل. وكان السياسي العظيم مريضا منذ حين، يستشفي في الرفييرا، ولكنه عاد إلى باريس منذ أشهر ممتعاً بالصحة والنشاط، ثم توفي فجأة، بينما كان يتابع الكتابة في مذكراته؛ فذهب بموته ركن من أعظم أركان السياسة الفرنسية المعاصرة. ولا يشغل بوانكاريه وبارتو مكانتهما الممتازة في عالم السياسة فقط، ولكنهما يشغلان مكانتهما الممتازة في عالم البيان والأدب أيضاً، ولكل منهما آثار أدبية تتبوأ المقام الأول بين تراث الأدب الفرنسي المعاصر
كان رايمون بوانكاريه فرنسياً عظيماً من غلاة الوطنية الفرنسية التي تذهب إلى حد التعصب؛ وكان يمثل مدرسة سياسية خاصة شعارها القومية المغرقة في كل شئ، ووسيلتها القوة والتفوق المادي قبل كل شئ؛ وكانت سياسته قبل الحرب وفي خلالها، ثم من بعدها، تمثل دائما روح العسكرية المحافظة، وروح الاستعمار الجشع، فكان بوانكاريه من أعظم بناة العسكرية الفرنسية، وكان من أعظم بناة الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية.
وكان مولده في (بارلد يك) من أعمال اللورين في أغسطس سنة ١٨٦٠، ودرس الحقوق في باريس؛ وبدأ حياته العملية في الصحافة، فتولى حيناً تحرير القسم القضائي لجريدة (لي فولتير) ثم عين موظفاً في وزارة الزراعة، ولكن جو الوظائف الحكومية لم يرقه، فاستقال لنحو عام من تعيينه؛ وكانت أحداث السياسة وتهزه وتستغرق اهتمامه، فخاض المعركة الانتخابية ودخل البرلمان لأول مرة في سنة ١٨٨٧ نائباً عن مقاطعة الموز. ومن ذلك الحين بدأ نجمه السياسي في التألق؛ وامتهن المحاماة في باريس، فظهر فيها بمقدرته وساحر بيانه؛ وجدد انتخابه لمجلس النواب سنة ٨٩، ثم في سنة ٩٣. وفي هذا العام دخل الوزارة وزيراً للمعارف وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، ثم تولى وزارة المالية في العام التالي، ثم المعارف مرة أخرى سنة ٩٥. وأستمر في مجلس النواب حتى سنة