وللذهن وظيفة واحدة، وهي معرفة (العلية). ولكن العلية تفترض الزمان والمكان مقدماً، وتفترضهما متلازمين متحدين. إذ ليست العلية مجرد توال للأشياء في الزمان، وإنما هي هذا التوالي بالإشارة إلى موضع من المكان؛ ولا هي مجرد وجود الأشياء في المكان، وإنما هي هذا الوجود بالإشارة إلى لحظات الزمان. إن العلية هي (حاصل ضرب المكان في الزمان) وبهذه الوظيفة الواحدة، أعني معرفة العلة من المعلول، والمعلول من العلة، يدرك الذهن العالم الواقعي. والمعلول هنا هو تأثرت (الموضع المباشر) أي الجسم الحيوان، ومهمة الذهن أن يحيل هذه التأثرات - التي نعطاها مباشرة - إلى عللها الخارجية، وبذلك يتم إدراك هذه العلل كموضوعات ممتدة في المكان. وليست الإحالة المذكورة عملية تجريدية تصورية، وإنما هي فعل مباشر، فوري، ضروري، ولولا الذهن ووظيفته، لما أمكن الإنسان والحيوان أن يدركا العالم المادي القائم في المكان، والمتغير في الزمان، والمترابط برباط العليه، بل لكانا يشعران شعورا (نباتياً) غامضا بتغيرات البدن، وأحاسيسه المتوالية، دون أن يكون لمثل هذا التوالي دلالة مفهومة؛ وإنما تكتسب التغيرات المتعاقبة في (الزمان) معناها وترجع الأحاسيس مدركات حسية، ممتدة في (المكان) بفضل الذهن، حين ينتقل من الإحساس إلى علته، أي الموضوع الخارجي ومن هنا فالعلم المادي (لا يوجد إلا بالنسبة إلى الذهن، وبواسطة الذهن، وفي الذهن).
وتتدرج معرفة العلية من أبسط أشكالها، وهو الإدراك الحسي، أو معرفة الصلة العلية بين الموضوع المباشر والموضوعات غير المباشرة المؤثرة فيه، حتى أغلب درجات الروابط العلية القائمة بين الموضوعات غير المباشرة، وينتظم ذلك استكشاف القوانين الطبيعية؛ فإن هذا كله من عمل الذهن والعيان، وليس من عمل العقل والتصور، وما المجردات في الواقع إلا انعكاسات باهته لعالم الحس والعيان.