للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من مآسي الحياة]

يا إنسان! أين الإحسان؟

ما أطول أحاديث البؤس وأكثر حوادِثَ أهله!

كان للمقالين الذين كتبناهما في غفوة الإحسان عن مرتجيه، وقسوة الوقوف على مستحقيه، رجْعٌ شديد في أكثر النفوس. فقد غدا علينا البريد بعشرات من الرسائل الباكية كأنما كتبت بدموع العين ودماء القلوب فلا تدري أهي كلمات أم أنَّات! ولو شئت أن أنقل إليك بعض ما فيها لدهشت أن يكون في مصر - وهي البلد الذي يجري نيله بماء الحياة، ويفيض ثراه بطيبات الرزق - خَلْق من بني آدم يدمنون الصيام من الجوع، ويلبسون الظلام من العُرْى، وتصبح أمانيُّهم على الله أن ينقذهم من الحياة بالموت!!

هاك حالة واحدة من ألوف: روى الشيخ عبد الغني في رسالته الضافية ما ألخصه لك في هذه الأسطر:

طرابيشي في حي (السيدة زينب) كان يعيش من فضل الله وربح الحرفة في نعمة سابغة. كان رحْب الدكان والصدر، يجلس عنده سراة الحي فيتحادثون ويتنادرون ويفضي بعضهم إلى بعض بأسرار البيوت وأخبار الصحف، والمكاوي لا تنقطع عن الكي، والعمال لا يفتُرون عن البيع. وكان رخي البيت والأسرة، يغشى فناءه السهلَ ذوو القربى وأولو الحاجة، يتقلبون في أعطافه، وينالون من أَلطافه، ويستريحون إلى ظله. فلما تعود الناس قلة النفقات من كثرة الأزمات، ووفدت على مصر من وراء البحر بدعة العُرى، فتعرّت أرجل النساء من الجوارب، ورؤوس الرجال من الطرابيش، أخذت نار الطرابيشي تنطفئ وحركته تسكن ومورده يغيض، وأخذ الغرماء مجالس العملاء، وزاد عدد المحضرين على عدد المشترين؛ فكان الرجل يفتح دكانه يوماً ويغلقه أسبوعاً، حتى فتحه الدَّين وأعيته الحيلة فباع الملك، وركبه الهم والمرض فلزم البيت، وتفجَّرت عليه المصائب من كل جانب، فمات ولده الوحيد وكان في السنة الثالثة من كلية الطب، وتوفى أخوه البارُّ وكان موظفاً في إدارة القرعة، وتأيمت أخته الفقيرة الولود فلاذت بحماه، ووجد الداء في جسمه الواهم المنحلّ مجالاً فاستشرى، ورأف الله به أن يعاني الألم في نفسه وفي أهله طويلاً فتوفاه. وبقيت بعده زوجته المقطوعة، وأخته الأرملة، وابنتاه العانستان، يعشن على خمسين قرشاً

<<  <  ج:
ص:  >  >>