للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بطون جائعة وأموال ضائعة]

للأستاذ علي الطنطاوي

ولد لي في هذا الأسبوع مولود جديد، فأهدى إلى أمه أكثر من عشرين علبة شكولاته، من هذه العلب التي جدت في دمشق، وصارت (مودة) الوقت، كل علبة منها لعبة كبيرة بأشكال وألوان، ما عرفناها قبل الآن، منها ما هو على صورة طيارة بأجنحتها وذنبها ومحركاتها ودوالييها، ومنها ما هو على شكل عربة بخيولها ولجمها وسائقها، كل ذلك مصور مشكل دقيق الصنعة؛ ومنها ما هو على هيئة سرير له فراش ووسادة من الحرير، وفي كل منها قبضة من السكر والشيكولاته، وهي ملفوفة بالورق الصقيل الشفاف، معقود عليها شريط من خالص القز، لا يقل ثمن إحداها عن عشرين ليرة سورية. . . فلما ذهبنا نفتحها تقطع الشريط وتمزق الورق. . . ثم تسلمها منها أولاد الدار، وأبناء الضيوف، لأنها لعب خلقت لهم لا للكبار، فلم تكن إلا أيام حتى تكسرت في أيديهم، وكيف لا تتكسر وهي مصنوعة من قطع الخشب الملون الملصق بعضه ببعض، لا تحتمل صدمة ولا نقرة؟ وعادت حطبا انتهى به الطريق إلى المدفأة، فاحترقت أربعمائة ليرة كان يمكن أن يشتري بها من (خبز البلدية) عشرون ألف رغيف، ومن الثياب النسائية المستعملة (التي توزعها وزارة التموين) أربعمائة ثوب، ويمكن أن يتزوج بها من الفقراء أربعة رجال. . . هذا وأنا رجل معتزل الناس لا أديم مواصلتهم، ولا أؤدي حقوقهم، خارج على مواضعاتهم، ثائر على عاداتهم، لا أصنع إلا ما أجده نافعاً معقولاً، ولي من جرأة جناني، ومضاء لساني عاصم من لحومهم وتعنيفهم، وهذا هو المولود الثالث لا الأول، فكيف تكون الحال لو كنت من الأثرياء الذين يخالطون الناس، ويقومون بحقوقهم؟ وكيف لو كان المولود صبياً بكراً؟

ففكروا كم ننفق من الأموال في أشياء لا يأتي منها خير، وما في تركها ضرر، ونحن نشكو الفقر والمرض والجهل؟

أعرف رجلاً تزوج فأهدي إليه يوم زفافه، من أصدقائه وصديقاته وأقربائه وقريباته، مائة وست عشرة باقة زهر، ثم أدناها خمس ليرات، وقد يبلغ ثمن أعلاها العشرين، فحار أولاً أين يضعها، ومن أين يأتي لها بالكؤوس والأواني، ثم بدا له فجعلها حول سرير العروسين، فكان لها منظر رائع خلاب، ثم مرت الأيام ففسدت وجفت فاستأجر رجلا يحملها ليلقيها في

<<  <  ج:
ص:  >  >>