للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[ملكة الجمال]

للدكتور طه حسين

هناك ابتسامة تتردد كثيراً قبل أن ترتسم على بعض الثغور. وتتألق في بعض الوجوه. أو قل إن هناك ثغوراً ووجوها تتردد كثيرا قبل أن تقبل أن ترتسم عليها، وتتألق فيها بعض الابتسامات. أو قل إن هناك نفوساً تتردد كثيرا قبل أن تتخذ ثغورها ووجوهها مظاهر لهذا الذي يعرب عنه الابتسام في بعض الظروف. وقد فكرت في هذه الابتسامة المترددة، وفي هذه الثغور والوجوه والنفوس التي تتردد بين الرضا والسخط، وبين ما يظهرهما، ويدل عليهما من الابتسام والعبوس، حين قرأت في الصحف أخبار ملكة الجمال وتشريفها لمصر بزيارتها السعيدة الموفقة.

فكرت في هذه الابتسامة المترددة، لأني أحسست ترددها على شفتي، فرأيتهما تحاولان الانبساط ثم تعودان فتنفرجان وتنبسطان بالابتسامة، ثم تستقر عليهما هذه الابتسامة التي كانت مترددة؛ ولكنها تستقر في سخرية إلا تكن شديدة المرارة، فليس فيها شيء من حلاوة الرضا. ذلك لأني لا أدري أوفقت الإنسانية حين فتحت على نفسها هذا الباب الظريف السخيف، الذي يدخل عليها منه ظرف كثير، ويدخل عليها منه سخف كثير؟ ومن يدري لعل الظرف والسخف صديقان لا يفترقان، وحليفان لن يختصما، أو تتغير الأرض ومن عليها وما عليها. وهذا الباب الظريف السخيف الذي يبعث الرضا ويبعث السخط، والذي يغيظ ويلهي هو باب المسابقة إلى الفوز بسلطان الجمال!

خطرت هذه الفكرة لكاتب فرنسي، ليس هو من المتعمقين في الجد، ولا هو من المتهالكين على الهزل. وإنما هو كاتب خفيف ظريف، يرضى في سهولة، ويرضي الناس في يسر، وتنفق عندهم سوقه في غير مشقة. وأكبر الظن انه يسخر من الناس ومن نفسه وأكبر الظن انه إنما يرضي الناس ويعجبهم لأنه يسخر منهم، يستهزئ بهم ويخيل إليهم أنه يجد كل الجد حين يسوق إليهم الأحاديث، مع أنه لا يزيد على أن يهزل أشد الهزل وألطفه، ولعله إنما يفعل هذا كله، فيهزل جاداً ويجد هازلاً لأنه صحفي، أو قل لعله إنما أصبح صحفيا رائجا نافق السوق لأنه يفعل هذا كله. وأنا اعتذر إلى الصحفيين ولكني أعتقد أن صاحبة الجلالة الصحافة إنما أقامت عرشها العظيم على هذه الدعائم المتينة الصلبة من

<<  <  ج:
ص:  >  >>