لقد كان صاحب هذه الثورة ومؤجج نارها طبيب سويسري وفيلسوف أوربي عاش في مدينة (باذل) عاصمة العلم في المقاطعات السويسرية الألمانية في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر للميلاد. طبيب كانت له نفس تواقة على التنقل من مدينة أوربية إلى مدينة أوربية أخرى، ومن جامعة أوربية إلى جامعة أوربية أخرى في سبيل طلب العلم والحقيقة؛ في سبيل إدراك كنه الإنسان وسر هذا الكون وعظمته.
ولكنه كان حيث هبط في أرض أو حل في مدينة يجد الكتب اللاتينية العويصة المترجمة عن العربية أو عن اليونانية تحتل المكان الأسمى في عالم علم ذلك الزمان؛ ويجد الأطباء والعلماء يتجادلون في أبحاثهم وفق القواعد المنطقية المترجمة عن العربية أو اليونانية رأساً. يدونون آراءهم في الكون والإنسان وفق ما جاء في كتاب أبن سينا ولا سيما كتاب (القانون في الطب) وكتب أرسطو وجالينوس. لم يكونوا يحكمون عقولهم، أو يستخدمون التجارب في أبحاثهم، أو يجيلون النظر في الأفق البعيد. وهذا ما ساءه جداً ودفعه إلى إعلان عصيانه وتمرده على كتب العرب واليونان معاً.
وقد عرف ذلك الطبيب الفيلسوف باسم الطبيب المتنقل (بارسلس)؛ أما أسمه الحقيقي فكان يتركب في الواقع من بضعة أسماء ضمت بعضها إلى بعض على عادة ذلك الوقت كان يدعى أورويلس ثيوقراستس بارسلس بومباستس فون هوهنسهايم
دعي بالطبيب المتنقل لأنه كان مشغوفاً بالأسفار محباً للتنقل من محل إلى محل ومن مكان إلى مكان. ولقد كون فيه هذا الميل عقلاً يختلف جداً في طراز تفكيره وأسلوب اشتغاله عن طراز تفكير واشتغال عقول علماء ذلك الوقت. جمع في أنسجته وخلاياه خلاصة الثقافات الأوربية المختلفة والنزعات الثورية التي بعثتها النهضة الأوربية على القديم البالي، وخلاصة النزعات العملية التي بعثتها التجارب العلمية التي بدأ يقوم بها علماء الطب والطبيعة في ذلك الحين. فشك في مقدرة كتب أبن سينا الطبية والفلسفية، وزلزل إيمانه بمقدرة كتب أرسطو أو أبقراط أو جالينوس على إنعاش حياة الإنسان من الناحيتين