مين دى بيران فيلسوف فرنسي ممتاز، أدرك الباحثون قيمته بعد وفاته، فاهتموا بنشر مؤلفاته، واعتنوا بدراسة فلسفته. وقد ذاعت شهرته على اثر ذلك، فلقي مذهبه رواجاً كبيراً بين الأوساط الفلسفية التي أقبلت على دراسته.
والفكرة الأساسية التي تقوم عليها مذهب (دى بيران) هي أن الحقيقة الجوهرية الأولى ليست (الذات) باعتبارها مريدة، أي (الروح) باعتبارها فاعلة. فما يكون جوهر الإنسان، إنما هو الإرادة. والإرادة هي التي تميز الإنسان عن الحيوان، لان الإنسان لا يحيى ويحس ويشعر فحسب بل هو يفكر ويريد ويفعل. وإذا كان الإنسان يدرك ذاته، فان لا يدرك هذه الذات فلا باعتبار أنها علة، وقوة، وإرادة، وجهد، وفعل. ومعنى هذا أن نقطة البدء في كل معرفة حقيقية، إنما هي تلك الواقعة الأولية للشعور أو الوعي الإنساني، وهي الحس الباطن أو التجربة الباطنة. وفي هذه البداية يتفق دى بيران مع فخته اتفاقاً كبيرا، حتى لقد سمى كوزان فيلسوفنا باسم:(فخته الفرنسي).
غير أن دى بيران يستبدل بفكرة فخته عن (الفعل) فكرة أخرى جيدة هي فكرة (الجهد). فالواقعة الأولية عند مين دى بيران ليست هي (الإحساس المجرد) الذي يقول به كوندياك وليست هي (الفكر) بالمعنى الذي قصد إليه ديكارت، بل هي (المجهود) الذي يقوم عليه إدراك الذات لنفسها.
ولما كانت الواقعة الأولية للذات هي إدراكها لنفسها، من حيث هي قوة حرة، تعمل وتشرع في الحركة، بإرادتها الخاصة؛ فان الصواب (في نظر دى بيران) لا أن نقول (كما قال ديكارت): (أنا أفكر، فأنا إذن موجود) أو بعبارة أخرى: (أنا أدرك نفسي باعتباري حرة، فأنا إذن علة موجودة بالفعل). وفي موضع آخر نجد مين دى بيران يصحح مقال ديكارت فيقول: (إذا كان ديكارت قد توهم أنه اهتدى إلى المبدأ الأول لكل علم حين قال: