للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من برجنا العاجي]

الرأي الصريح الحر قوة ينبغي ألا تخلو منها أمة من الأمم الآخذة بأسباب الحضارة. ووجود هذا الرأي ألزم من وجود البرلمانات في ضمان العدالة والحد من طغيان السلطات؛ لأن هذا الرأي لا يتطرق إليه عادة ذلك الفساد الذي يشوب أعمال النظم السياسية والاجتماعية، فهو صادر عن قلب حار نبيل قد ارتفع عن دنيا الأغراض والمجاملات.

على أن المشكلة هي دائماً: كيف نعثر على هذا الرأي؟ قد نستطيع أن نعثر على العنقاء، ولكننا لن نستطيع أن نظفر في كل زمان بصاحب الرأي الحر الصريح. لماذا؟ لأن هذا المخلوق ينبغي أن يكون مركباً تركيباً مخالفاً لتركيب أغلب البشر. فلا بد أن يكون قد عرف كيف يستغني عن الناس، وأن يكون قد وطن نفسه على أن يمضي في طريقه دون أن يعبأ بسهام الناس التي أصابت جسده. وألا يكون له عند أحد حاجة ولا مطمع. وأن يكون محباً للوحدة معتاداً العزلة، قانعاً من الدنيا بأبسط متاع وأقل مؤونة. ذلك أن أول خطوة في هذا الطريق الوعر يصادفها صاحب الرأي الحر، هي فقد الأصدقاء والأعوان. ثم يلي ذلك تألب الجميع عليه، لأنه لم يرض أحداً ولم يمالئ فريقاً ولم يعتصم بجاه جهة من الجهات، ولم يستظل بقوة من القوى. إنه وحده منبع كل شيء. وهو بمفرده الواقف في وجه جميع القوى متضافرة. إنه قد ينهزم وقد يتحطم ويتهدم تحت ضربات الجميع، ولكن راية الرأي الحر تبقى خفاقة في الهواء عالية مرفوعة في يده الميتة.

حبذا لو كان لي هذا المصير العظيم! لقد أتاحت لي الظروف أن أطلق رأيي ذات يوم حراً في بعض الأمور فأحسست في الحال أني فقدت كل سند من كل جهة من الجهات، ولم يعد لي صديق. ولم يبق حولي سوى عيون نارية تنتظر ساعة الانقضاض عليّ والفتك بي. غير أن كل هذا لم يزعجني. فلقد شعرت في عين الوقت أن في يدي شيئاً يخفق عالياً، أدركت أنه هو وحده الباقي.

توفيق الحكيم

<<  <  ج:
ص:  >  >>