كان تراث العربية حتى أوائل القرن الماضي لا يزال مغموراً محجوباً في ظلمات المكتبات والمجموعات الخاصة؛ وكانت المطابع قد ظهرت في أوربا منذ أواخر القرن الخامس عشر، وطبعت في رومه بعد ذلك بنحو قرن بعض الكتب والوثائق العربية، منها: مختصر كتاب (نزهة المشتاق) للشريف الإدريسي (سنة ١٥٩٨)؛ وفي القرن السابع عشر طبعت في مدينة لندن التي ما زالت منذ أربعة قرون مركزاً هاماً لنشر الآثار العربية، عدة مراجع عربية تاريخية، منها:(تاريخ المسلمين) لابن العميد (المكين)(١٦٢٥)، وكتاب (عجائب المقدور في أخبار تيمور)، لابن عربشاه (سنة ١٦٣٦)، وكتاب مختصر تاريخ الدول لابن العبري (١٦٦٣)، وظهرت هذه الكتب بالعربية لأول مرة مقرونة بتراجم لاتينية كانت منذ ظهورها مستقى خصباً لمؤرخي الغرب
ولم يظهر في أوربا حتى أوائل القرن التاسع عشر من الكتب العربية سوى طائفة قليلة من الكتب قد لا تعدو عشرات؛ وإلى أواخر القرن الثامن عشر لم تكن مصر قد عرفت المطبعة العربية؛ وقد عرفتها لأول مرة في سنة ١٧٩٨، حينما وفد نابليون على رأس حملته الفرنسية، وحمل معه مطبعة عربية كاملة استعلمت بالقاهرة لطبع البيانات والأوامر التي كانت تصدرها القيادة العليا ويصدرها الديوان الفرنسي لأهل مصر؛ وكان في مقدمة الكتب التي أصدرتها هذه المطبعة كتاب عن محاكمة سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر يضم خلاصة التحقيقات والإجراءات بالعربية والتركية والفرنسية، وذلك سنة ١٨٠٠
ولما بدأ محمد علي في تنفيذ برنامجه الإصلاحي لم تفته هذه الناحية الهامة من تعضيد الحركة الفكرية والثقافية، فأنشأ في سنة ١٨٢١ مطبعة بولاق الأميرية، وعني بإعدادها وتجهيزها عناية عظيمة، فكانت أول وأعظم صرح للطباعة العربية في الشرق؛ ولم تقتصر مطبعة بولاق على إخراج الجريدة الرسمية (الوقائع) التي أنشئت بعد ذلك ببضعة أعوام، وإخراج الوثائق والمنشورات الرسمية، بل أعدت منذ إنشائها لإخراج الكتب العربية، فطبعت فيها لأول عهدها عدة من الكتب التي ترجمها بعض أعضاء البعثات العلمية في مختلف العلوم والفنون التي درسوها، فكانت باكورة أعالها في نشر الكتب