اتجه نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام وما جاورها قبل أن يستتب له الأمر في الجزيرة بزمان طويل، بل قبل أن يفرغ من قريش، ويفتح مكة، وصحيح أنه كان قد عقد مع قريش صلح الحديبية، فأطمأن، واطمأنت قريش بذلك بعض الاطمئنان، ووسع النبي أن يتفرغ لغير قريش، ووسع قريشا أن تستأنف تجارتها مع الشام وهي آمنة، ولكن هذا كان قبل فتح مكة بعامين، وكان هناك اليهود أيضاً، وأمرهم غير هين، وقد قضى عليهم بعد عودته من الحديبية، فغزاهم في خيبر، واستخلصها منهم، ثم دعا يهود فدك فخضعوا بغير قتال، وتلاهم يهود وادي القرى بعد قتال يسير. ولكن هذا وسواه لم يكن قد تم لما شرع النبي - أو لما بدا أنه شرع يفكر - فيما وراء جزيرة العرب. وأكبر الظن أن تفكيره في الشمال قديم، فما يسع قارئ السيرة النبوية إلا أن يروعه عمق النظرة، وبعدها، ورحابة الآفاق التي تمتد إليها
ومن أول مظاهر هذا الاتجاه، إرساله إلى هرقل، وكسرى، والمقوقس، وملك الحيرة، وملك اليمن، ونجاشي الحبشة. . . يدعوهم إلى الإسلام؛ وقد كانت هذه دعوة عامة، وإذا تركنا الحبشة: فإنها فيما وراء البحر، واليمن: لأنها داخلة في شبه الجزيرة. فإنه يبقى الشمال، الذي جاءت الحوادث بعد ذلك بما يخصصه. وعسى أن يكون من أول دواعي هذا التخصيص أن الحارث الغساني ملك الحيرة، لما تلقى كتاب النبي بالدعوة إلى الإسلام بعث إلى هرقل ملك الروم يستأذنه في أن يقوم على رأس جيش، لمعاقبة صاحب هذه الدعوة الجديدة، ولكن هرقل صرفه عن ذلك لأسباب لا تعنينا هنا، فما أريد أن أكتب تاريخا حديثا - فقد تكفل بذلك الصديق الزميل - على الرغم من الوزارة والرتبة، الدكتور هيكل باشا، جزاه الله عن المسلمين خيرا. . . وإنما كل ما أقصد إليه من ذكر هذه الدعوة التي وجهها النبي إلى الملوك، هو الإشارة إلى الاتجاه فيها. . .
ومن المحقق أن عين النبي كانت على الشام خاصة، والشمال عامة، وهو يعرفها حق معرفتها؛ فقد سار فيها صبياً، وشاباً، ورجلاً قبل البعث. ولم يكن يخفى عليه أن حياة الجزيرة رهن بتجارتها مع الشام، ولهذا رأى في الهجرة إلى المدينة وسيلة تعينه على