يشتمل هذا الكتاب على مجموعة مقالات (أو دراسات كما يدعوها المؤلف)، ثم قطعة تمثيلية من أربعة فصول فهو إذن كتابان في كتاب واحد. وسنقصر كلامنا على أولهما.
الفكر والعالم كلمتان عظيمتان تدلان على كل ما في هذه الخليقة من مادة وروح. وقد تشك في أن هذا الكتاب الصغير يحوي بين دفتيه خلاصة الفكر وخلاصة ما في العالم. فإذا ما قرأت هذا الكتاب انقلب الشك يقينا، فالكتاب يخدعك بعنوانه الضخم، وليس به من عنوانه الا القليل.
ولكنك قد تجد في الكتاب متعة أقرب إلى النفس، لأنك تتصل بفكر خصب هو فكر المؤلف نفسه، وتتصل بعالم حي هو نفس المؤلف ومشاعره. إذ ليس الكتاب سوى صورة إبراهيم المصري، صورة ميوله وآماله، ومتاعبه وآلامه. وفي الرسالة الأولى من الكتاب، وعنوانها نجوى، يتمثل تفكير المؤلف، وأسلوبه في الكتابة. استمع إليه وهو يقول:
(. . . نهذب نفوسنا ونصقلها بشتى الأفكار والمعلومات. وما تزال الحيوانية الكامنة ترتع في قلوبنا وتستشره. ترق احساساتنا في بعض الأحايين، وتخمد أعصابنا ويغفو ذهننا العامل المجد، ويخيل إلينا أننا بلغنا قمة الحكمة، وسمونا إلى حيث يشترك العقل البشري بالقوة الإلهية المحركة الأولى.
وسرعان ما نتصل بالمجتمع، فنلمس الحقيقة فنكر راجعين والخيبة تملأ جوانحنا، والكمال الروحي يتباعد عنا شيئا فشيئا، حتى يتلاشىّ بغتة ويغيب عن الأبصار.)
وهكذا تقرأ في الكتاب صفحات وصفحات من العبارات المتراصة المشبعة بالصفات والكلمات المؤكدة تنساق في سلسة واحدة لتصور لك في الحقيقة وفي والنهاية أمرا واحدا: الوجه الشاحب، قد أحاطت الغضون فيه بالفم والجبين قبل الأوان. وذلك الشعر الغزير الكثيف الذي وخطه الشيب على رغم الشباب. وتينك العينين المتعبتين من أثر الإسراف في القراءة تغطيهما عدستان قويتان. تلك هي الصورة التي تبرز لك من خلال مطالعة الكتاب: صورة إبراهيم المصري وهو يجاهد في مضمار الحياة تطحنه المادة، ولكن ذهنه المستنير يأبى إلا أن ينتصر، وأن يحطم الجسم في هذا السبيل. . . (فلتنزل بي الطبيعة