للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عمر في بيت المقدس]

للدكتور عبد الوهاب عزام

- ١ -

هذا عام ستة عشر من الهجرة، وقد انساحت جيوش المسلمين في الشام والعراق وفارس وألقت أقاليم الشام بالمقاليد إلا فلسطين. وأبو عبيدة ابن الجرّاح يحصر بيت المقدس، وقد ملأ الأسماع والقلوب بأس المسلمين وعدلهم ووفاؤهم

عزم أهل بيت المقدس أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس - في عهد المسلمين وحمايتهم وعدلهم، ورغبوا أن يكون صاحب عقدهم عمر. . . عمر الذي ملأت سيرته الآفاق وسكنت إلى عهده النفوس، واشتاقت إلى رؤيته العيون

وفصل عمر عن المدينة في جمع من الصحابة ومعه مولاه أسلم. خرج يغذّ السير إلى الشام ليتفقد أحوال المسلمين، ويصالح أهل فلسطين. . .

ويمضي في طريقه حتى يبلغ أَيلة. ويتنظّر الناس موكب أمير المؤمنين يحسبون أنه سيطلع عليهم في زينته يحيط به جنده ورجاله. والذي رأى منهم هرقل حين فتح بيت المقدس قبل عشر سنين، أو شهده من بعدُ في حلّ أو ترحال، تخيل عمر قادم في موكب كموكب هرقل أو في موكب دونه ولكنه موكب ملك أو أمير

ولما دنا عمر من أيلة تنحى عن الطريق وتبعه غلامه فنزل فمشى قليلاً (ثم عاد فركب بعير غلامه وعلى رحله فَرو مقلوب وأعطى غلامه مركبه). وكأن عمر خاف أن يداخله الزهو وهو على مركبه في غير زينة فآثر أن يشعر نفسه أنه وخادمه سواء فتحول إلى رحل غلامه. فلما تلقاه أوائل الناس قالوا: (أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم (يعني نفسه). وذهبوا إلى أمامهم فجازوه حتى انتهى هو إلى أيلة فنزلها. وقيل للمتلقين: قد دخل أمير المؤمنين أيلة ونزلها. فرجعوا إليه)

ونظر الناس إلى رجل طويل جسيم أصلع أشقر شديد الحمرة كثير السَبلة في أطرافها صهوبة وفي عارضيه خفة - رجل لا تقع العين منه إلا على الوقار والتواضع والشدة في الحق والرأفة بالضعفاء. رأوا ملكاً في زي ناسك، وراعي أمة في صورة راعي ثلة. رأوا إنساناً لا تفقد فيه الإنسانية حقيقة من حقائقها، ولا يصيب فيه الجبروت باطلاً من أباطيله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>