للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[طغيان النيل]

على الشاطئ الغريق. . .

هكذا الطغيان يا نيل يجعل مصدر الحياة مورد هلكة، ومنبع الخيرات مغيض بركه، وأصل العمارة غاية دمار وخسر!!

هذه شواطئك الخضر يا نيل كانت بالأمس تتنفس بالنعيم، وتتدفق بالخير، وتترقرق بالجمال، فأصبحت اليوم تختنق بالأخطار، وتلتطم بالمخاوف، وتهدد الحقول الغنية الخصيبة بالفاقة والجدب، وهذه مدنك البيض وقراك السمر كانت تتفيأ على ضفافك ظلال الخفض، وترمق من خلال النخل أمواجك المرسلة المسلسلة، وهي تقع بين القصب الألف ألحان الثراء والغبطة فتعز بك وتقدس لك، فأصبحت تحشد في وجهك الجنود، وتقيم بينها وبينك السدود، وتضرع إلى الله أن يصرف عنها طغيانك وجورك! وهؤلاء أبناؤك الوادعون كانوا يتعهدون بالعمل الدائب غرسك الزكي وثمرك الغالي، فيدفعون الحشرات عن القطن، ويدرؤون الطفيليات عن الذرة، ويسلسلون في الحقول نضارك الذائب، ويستقبلون بالشوق الأمل موسمك الآئب، فأصبحوا هم من هولك قائمون على رجل، لا يستقر لهم جنان من الروع، ولا يطمئن بهم مجلس من الجزع، ثم أمسوا وهم محشودون بقوة السلطان على جانبيك، من أسوان إلى مصبيك، يدافعونك مدافعة العدو، ويكافحونك مكافحة الوباء، ويكابدون في صد غارتك الجهد والجوع و (السخرة)! ذلك والقرويات ينتظرن بالقلق الجازع الغرق المخشي، ويرصدن الأهبة للهجرة المتوقعة، فهن يجمعن المتاع، ويشددن الغرائر، ويلقين النظر الحزين على القطن المكتهل على اعواده، والذرة الناشئ على سوقه!. وهكذا الطغيان يا نيل السكينة في القلب، ويفزع العدالة في الدولة، ويجعل سلام الأرض وسلامة الناس لمشيئة فرد!! وقفت منذ أيام على شاطئ من شطئانك المنكوبة، أرسل طرفي الساهم في تيارك الجارف، وداراتك المدومة، ولحجك الفائرة، ثم أرده إلى السواحل الغصانة والمزارع الغرقى، وفكري بين هنا وهناك يستقبل الذكريات القديمة، ويستخرج المشابهات الأليمة. فذكرت بهذا المنظر المحزن ترة بيني وبينك موروثة! فقد طغيت في عام ١٨٧٨ على قريتي الصغيرة، فاحتملتها هي ومئات من أمثالها كما يحتمل السيل الدافع أكوام الهشيم! وكان قومي قد سمعوا بانفجارك على مقربه من

<<  <  ج:
ص:  >  >>