مضى السمرقندي نحو دار الخليفة يتعثر في مشيته، يقدم رجلا ويؤخر أخرى، تتقد نار الحماسة في نفسه فيخطو، ثم تعصف بها رياح الشك فيقف، وكان يطربه الخيال إلى ملوك بلده، فيتصور تلك الحجب على القصور، وأولئك الحجاب على الأبواب، والسيوف المسلطة والرماح المشرعة، ثم يبصر هذه الدار. . . وهذا الذي قالوا إنه أمير المؤمنين، فيزداد به الشك. . . إنه يعرف السلطان الذي يحكم بالبطش، والرعية التي تطيع بالخوف، أما سلطان العدل وطاعة الجب، فشيء لم يعرفه في بلده!
واستقر في نفسه أن الرجل يسخر به، فعدا وراءه حتى لحقه وقال له:
- ناشدتك الله أيها الرجل، هل هذه الدار هي دار أمير المؤمنين؟
- قال: نعم والله إنها لهي داره. . . هذه دار الرجل الذي أورثته سيوف قومه تيجان الملوك الأربعة: كسرى وقيصر وفرعون وخاقان، فكانت هامته أرفع من أن ببلغها تاج منها، فما سمت إليها إلا (العمامة) تاج العرب. . . هذه دار الرجل الذي جبيت إليه ثمرات الأرض، فكال الذهب كيلا، وأعطاه لمستحقه باليدين، ومنح الفقراء الجوهر، وقسم في المحتاجين الدرر، وبقى هو وأسرته بغير شيء. . . لأن نفسه أكبر من أن يملأها كل ما في الدنيا من ذهب وجوهر، إنها أكبر من الدنيا، فلذلك حقرتها وطمحت إلى ما هو أعظم منها: إلى الجنة!!
وما هجر الحياة ومناعمها ليأوي إلى غار في جبل فيعتزل الناس، أو إلى مسجد فيناجى الله، إذن لزاد العباد واحداً، ولما كان في ذلك حديث يروى، ولا عجب يؤثر، ولكنه زهد في الدنيا وهو رجل الدنيا وواحدها، وإليه أمرها، وبيده بعد القدر صلاحها وفسادها، فهو في اللجة ولا يبتل، وهو (في اللهب ولا يحترق)، هو زاهد ولكن في رأسه عقل حكيم، وفي صدره قلب بطل، وفي فيه لسان أديب، فهو يدير بعقله هذا الملك الواسع، بقضائه