عقدني (الروماتيزم) شهراً بالسرير لا أتورَّك ولا أتحرك. وكانت دنياي في هذه الفترة الفاترة قد انحصرت في غرفة المرض كما تنحصر دنيا الطائر السباح في القفص، أو حياة المخاطر الطماح في السجن. فالنشاط الحيوي الجياش بالعمل والأمل ينقلب في المريض والسجين نوعاً من الهدوء الفلسفي الصوفي يردُّ كل ثورة إلى السكون، ويروض كل رغبة على الرضى، ويزيل عن البصر والقلب غشَوات الباطل فيرى المرء كل شيء على طبيعته، ويدرك معنى على حقيقته
أين القفص الضيق الحاصر من جو السماء يسبح فيه الطائر ملء جناحيه، فيرى في كل دوحة عشاً لحبه، وفي كل روضة مسرحاً لغنائه؟ ولكن البلبل الأسير يعرف بعد قليل كيف يطوى جناحيه على الصبر، ويختصر سماءه وهواءه وأرضه وروضه في هذه الأسلاك المعدنية الباردة يغرد بينها ويثب فوقها ويستقبل الصباح بمرح النشوان، والمساء بهدوء الخليّ
وأين السجن الموحش المظلم من رقعة الأرض يضرب فيها المغامر طليق العنان حر الإرادة، يفترس مع القوة، ويختلس مع الضعف، ويجمع فيشح، ويطمع فيهتلك؛ ولكن أشعب السجين يعرف كيف يرد طماحه، فيرى في جدران السجن حدود مطامعه وغاية دنياه، فيسخر من كيد المنافسة وبغي الخصوم، ويخطو بأنفاسه الرخية إلى أجله وهو زهيد العين مطمئن الجوانح
كذلك أنا: وجدتُني بعد معركة رابحة على أمر من أمور الدنيا دارت ثلاثة أشهر بين العجز والفقر يقودهما الحق الهيوب في صف، وبين القدرة والغنى يؤيدهما الباطل الجريء في صف آخر. وجدتني بعد هذا الجهاد على سريري كما يكون الميت في نعشه! غير أن الميت فقد الحس والوعي فلا يتألم ولا يتكلم؛ أما أنا فكنت قوي الشعور بالألم، شديد الرغبة في الكلام، أبصر في كل صباح حواجب الشمس تنفذ إليَّ من خلال الزجاج رخية لينة، فتغمرني بالدفء، وتشِيع فيَّ سر الحياة، وتُسكت عني صوت المرض؛ ثم تتركني لتعطي الدنيا الكبيرة، ما أعطته دنياي الصغيرة، وأظل أنا محدود الآمال مردود المطامع لا يصلني بحياة الناس غير طنُفٍ تتمثل عليه طول النهار صباحة الشباب في أفواف الربيع؛ والشباب الجميل لا يعنيه إلا أن يُعجب ويجذب ويلذ