من أحب المطالعات إلى نفسي كتب العالم الرياضي (هنري بوانكاريه). عندي من مؤلفاته ثلاثة كتب:(العلم والطريقة) و (العلم والفرض) و (قيمة العلم). قرأتها لأول مرة منذ عشر سنوات. وأعود إليها من حين إلى حين. إنها لتسحرني كما تسحر الأطفال قصص ألف ليلة وليلة. فأنا الآن لا أقرأ كثيراً كتب الأدب. لأني أنا نفسي أصنع كتباً في الأدب. ولكني أحب أن أصغي إلى أولئك الذين يبحثون في صمت عن الحقيقة. هؤلاء الذين عندهم ما يقولون ولكنهم يترفعون عن الكلام. فإن الحقيقة التي يحاولون أن يتصيدوا شبح خطاها خلف (المكرسكوبات) و (التلسكوبات) لأروع من أن توضع في ألفاظ وعبارات. على أن ما يعنيني من كلام هؤلاء العلماء ليس الأرقام والمعادلات أي (الوسائل)، ولا يعنيني كذلك ما وصلوا إليه من (نتائج)، ولكن الذي أقرأ من أجله كتبهم هو تلك الإِشراقات الذهنية التي تلمع من خلال بحوثهم فتضيء جانباً من جوانب الفكر المهجورة. ليس العلم في ذاته هو الذي يهمني، ولكن هي (العقلية العلمية) في مصادمتها ومواجهتها للأشياء. لا شيء يلذ لي مثل مجالسة (عالم) متسع الأفق. وهذا النعت لا ألقيه جزافاً، فإن من كبار رجال العلم من هم ضيقو الأفق، أي سجناء معادلاتهم وأرقامهم، يصلون بها مع ذلك إلى نتائج باهرة في صميم العلم، ولكنهم قلما ينظرون إلى العالم الخارجي. إنما الطراز الذي أقصد، هو طراز رجل العلم المطبوع الذي يخرج بعد ذلك لينظر بعين العلم وعقلية العلم إلى الكون بمعناه الواسع. هي (فلسفة العلم). ما أريد هنا بعد هذه القراءات أن يتضح لي أنا (رجل الأدب) كيف أن مخلوقاً آخر يسمى (رجل العلم) ينظر إلى ذات الأشياء التي أنظر إليها ويفكر في هذا الكون الذي أفكر فيه ولكن بعين أخرى وعقل آخر. ومن يدري؟ لعل أكثر هؤلاء العلماء هم أيضاً لا يلذ لهم شيء مثل قراءة ومجالسة (رجال الأدب) فما الأمر في باطنه إلا شوق وحب استطلاع بين نوعين مختلفين من هذا الحيوان المفكر