يملك حب العظمة عليه نفسه، ولقد ركبه هذا المتعاظم منذ مدرجه وكبر معه، فهو اليوم في منتصف العقد الرابع، طفل في الخامسة والثلاثين. قتر على نفسه حتى اقتنى سيارة قديمة راح يتشبه بها بذوي اليسار من أصحاب السيارات الفخمة، وإن كان مرتبه كله لا يساوي ما يدفع هؤلاء من (بقشيش)؛ وقتر على نفسه مرة أخرى، فقضى الصيف في أوربا، وإن كان من ذوي رحمه الأدنين من لا يكاد يجد قوته.
ومن أحب الأشياء إليه أن يذهب في سيارته إلى القرية، فيطلق نفيرها هناك عالياً في داع وفي غير داع، وبنظر الفلاحون البسطاء إلى هذا (المحدث) مبتسمين، فيزهى إذ يخيل إليه غروره أنها ابتسامات الإعجاب. ولقد رأيته مرة - وكأنه أحد الدكتاتورين يدخل المدينة على رأس قوته المصفحة لكثرة ما تجبر يومها وتعاظم، ولكن سيارته لسوء حظه أصابها في تلك اللحظة عطل فوقفت، ونظر مبهوتاً على صوت ضحكات قريبة، وكنت غير بعيد من الفلاحين الضاحكين، فحبست ضحكاتي مخافة أن يفهم الدكتاتور أني غيران!
ومن آلم الأشياء عنده أن تمر به فلا تحييه، ففي ذلك إنكار منك لعظمته، ولقد يبلغ به الألم من ذلك حد الحمى، فإذا أقبلت مع ذلك تحييه: تباطأ وهو يقبل عليك، وتكلف سلام العظماء ونبرات العظماء وحركة رؤوس العظماء وعبوس العظماء أو تبسمهم حسب مقتضيات الظروف.
وشاع في القرية أو أشاع هو فيها أنه ما من كبير من رجال الحكومة إلا وله عنده مكانة مهما اختلفت على كراسي الحكم ألوان الأحزاب، وتهاوت عليه عرائض البسطاء يطلبون الاستخدام وما تزال تتهاوى عليه وهو يدسها كل مرة في جيبه في اتزان ووقار بالغين ولكنهما مع ذلك بثيران الضحك العميق!
وهو ينظر إلى هؤلاء من عل ويفرح أشد الفرح إذ يجد من يتملقه، ويغتر إذ يكون بعض الناس منه كما يكون هو ممن يطرق أبوابهم من ذوي المناصب مستجدياً متملقاً، وهو كثيراً ما يتملق ويستجدي، وقصارى أمره أن يظفر بتعيين فراش أو نقل ساع من جهة أخرى إلى أخرى يحبها ويحسب ذلك هو الجاه أعظم الجاه، وهكذا يتمسكن ويتضاءل في المدينة