ها أنت ذا، أيها الصديق، قد استويت ومن معك على ذات ألواح ودسر. وقد أذنت ساعة الرحيل، ولم يبق بد من الفراق، فلم نجد مناصًا من النزول إلى البر، تاركيك على ظهرها، غير آسف لفراقنا، ولا مستشعر لوعة على تركنا. . . وانطلق الصفير والزئير يشقان الفضاء، فإذا السلالم قد رفعت، والأهلاب قد جذبت من قاع البحر. وإذا سفينتك آخذة في الابتعاد على مهل كأنها لا تريد أن تؤلمنا ببعدكم مرة واحدة؛ وإذا مناديلنا تخرج من جيوبنا بيضاء ناصعة، وقد حملتها الأيدي أعلاما تهزها هزاً؛ وبين الجوانح قلوب تخفق خفقان الأعلام، ولكن أعينكم لا تراها. وها أنتم أولاء وقوف بأفريز السفينة، تخفق مناديلكم بأيديكم خفقانا فاتراً، لم ينبعث من قلب حزين، ولا نفس آسفة؛ وعلى ثغوركم ابتسامة تعبت في تأويلها وتفسيرها؛ وأحسبها ابتسامة الرثاء والإشفاق: إنكم ترثون لنا، معشر المقيمين، وتنظرون إلينا كأننا من نوع آخر غريب عنكم، نوع يعيش عيشة الأشجار: تنشأ حيث تغرس، ثم تنمو عليها الغصون والأوراق، والزهر والثمر؛ وهي باقية في مكانها لا تبرح: وكلما تقدم بها العهد ازدادت تشبثا بمنبتها، وتعلقا بمغرسها، لا تعرف ما ركوب البحار، ولا لذة التنقل والأسفار. . .
أجل كنتم تنظرون إلينا نظرة إشفاق، وكأنكم بعض الآلهة تلقي نظرة من السماء على ما دونها من الكائنات. . . وفي تلك الساعة رأيت دموعا كثيرة تنهمل، ولكنه كانت تتساقط من عيون المودعين، لا الراحلين. . فيا ويل الشجى من الخلي؟ ويا ويل المجهود من المجدود!
وعجبت لك أيها الصديق، كيف ترحل عنا باسم الثغر، قرير العين مثلج الصدر. وأنت تعلم انك راحل عنا أشهرا طوال، لا ترانا فيها ولا نراك، أليس للود القديم حرمة، ولا للحب لمؤلف رعاية؟ وهذا الوطن العزيز الذي أنبتك ثراه وغذّاك هواؤه، وأظلك دوحه، وأنضجتك شمسه، مالك لا تحس لفراقه جزعا ولا أسفا؟ بل كأنك بهذا الفراق جد مغتبط، ولهذا الرحيل مشتاق متلهف! لا تحاول الإنكار! إن سرورك بهذا البعاد أكبر من أن يخفيه التكلف، وما أنت ممن يحسنون تصنع الأسف، بل إن بك شوقا شديدا بادياً لمغادرة هذه